حين لا تملك أن تتنبأ بالغد، ولا تعرف لمَ حدث هذا الأمر بالأمس، فتأكد أنك في هذه البلاد، فمن الصعب أن يخطط المرء لغده، فضلاً عن مستقبله البعيد، ويصبح الأمر أكثر تعقيداً حين يرتبط تخطيطك لمستقبل أسرتك كلها، زوجتك وأطفالك، فمثلاً قد تختار لزوجتك مجالاً دراسياً، وتفاجأ بقرار ينسف حلمكما، وربما تقترح لها مشروعاً تجارياً، وتجد فجأة من وضع أمامك عراقيل تنسف رأسك قبل أن تنسف حلمك، تماماً كالشوارع في هذه البلاد، فقد يتوقف الشارع فجأة أمامك دونما تحذير، كل شيء وليد اللحظة، وعجائب حياتنا قد تبلبل أعتى الذهنيات العبقرية في التنبؤ والتخطيط، حتى يشعر أن كل دراساته وأفكاره في دراسة الواقع وتحوّلاته، والقياس عليها لفهم المستقبل، كانت في مهب الريح!
قد تخطط، مثلاً، لابنتك، بعد دراسة تصريحات معينة من وزارة التربية والتعليم، بأنّ اللغة الإنجليزية سوف تعمم على جميع المدارس الابتدائية، وتتفتح قدراتك التنبؤية على فرص باهرة لمدرسي ومدرسات اللغة الإنجليزية، ثم تفاجأ بأنّ تصريح الليل يمحوه النهار! وأن ابنتك ستدخل في قوائم البطالة المحترمة، بجوار زوجتك التي فشلت بالتنبؤ لها أيضاً، وستضيف بطالة جديدة لابنك الذي (تلقفت) واعتقدت أنّ مجال الدراسة في الصحة، كالمعاهد الصحية مثلاً، ستكون خبطتك العائلية القادمة، لكنك ستجد من سيصرح بأنّ المستشفيات ليست بحاجة إلى ابنك، بحجة أنّ مستوى المعهد الذي التحق به ابنك غير مناسب لمواصفات وزارة الصحة، وكأننا لا نعرف حال هذه الوزارة، وكأنّ ابنك درس في بلاد الواق واق، وليس في وطنه، بمعنى إذا كانت شهادة هذا المعهد غير معتمدة من التعليم الفني ومن الصحة، فلمَ لا يوقف التعليم فيه وتوريط الشباب بالبطالة، حتى يستوفي إمكاناته، وفي كل الأحوال تدرك ضمناً أنّ استبعاد ابنك ليس بسبب كفاءة التعليم، بل بسبب عمالة شرق آسيا تحتل ممرات المستشفيات الوطنية!
كما تخطط كثيراً، وتصنع مستقبل أسرتك الصغيرة، لكنك تفاجأ بقرارات (تحوس) خططك، وتجعل أعلاها أسفلها، حتى يُسقط في يدك!
هذا إذا كنت تؤمن بالاستثمار بالبشر، وصرفت عمرك وأنت تفكّر كيف تستثمر في سلالتك العظيمة، أما إذا كنت متواضعاً، ومتوافقاً مع فوضى المكان، فقد تنصرف إلى تأمين سكن خاص مثلاً، كي لا تموت فجأة، ويجد أولادك أنفسهم في الشارع، فهذا الأمر من أغرب الأمور، لأنك كما لم تستطع فهم سوق العقار على مدى عشرين عاماً، لن تفهم أيضاً سوق العقار، وستبقى طول عمرك تدخر مالاً متواضعاً كي تشتري للأسرة منزلاً، أو حتى أرضاً، فكلما وفرت المبلغ المطلوب، تكتشف أنّ السوق لم يَعُد كما قبل سنتين، وأن مبلغك المتوفر لا يكفي، فتواصل اللهاث، وتواصل الأسعار السباق للأعلى ... كم يصعب وضع الخطط في مكان يصعب التنبؤ بغده، لذلك كل خططك - أيها المواطن الصالح - فاشلة.