لا أدري إن كان معظم ما يكتب اليوم عن الموقف السياسي في مصر يمكن أن يعتد به ككتابة رأي موضوعية ومستنيرة أو على الأقل يمكن من خلالها عقلنة ما يجري على أرض الواقع. ولست في هذا أشير إلى كتابة تقيمية للوضع كالقول بالنجاح أوالفشل،
بالنصر أو الهزيمة بالتخوين أو التنزية. ولست أيضا أبحث في كتابة إصدار الأحكام مع وضد ولا الكتابات القيمية التي تزن الموقف بميزان سلم القيم الأيدولوجي القاطع لهذا الفصيل أو ذاك،بل أقصد الكتابة التي لا تتحجر في ترجيح كفة على أخرى ولا توغل في الجزم بالتمايز المطلق بين الصح والخطأ أو بين الشر والخير في توصيف أو تصنيف الكفة التي ترجح. فليس المنشود تلك الكتابة ذات الهوى المعلن أو المضمر المحسوم من سيل المقالات والمقابلات والتغريدات والتعليقات والمدونات في التأييد أو النقد لطرف دون آخر أو لموقف طرف على حساب طرف آخر، إذ ليس من الصعب كتابة أو تتبع العشرات من تلك الكتابات التي تقف مع العسكر وتقوم بتمجيد دور الجيش المعلن أو الخفي المتربص أو العشوائي المنقذ أو المتواطئ. ليس أيضا من الصعب كتابة أو تتبع ما يماثلها من تلك الكتابات التي تدين تدخل الجيش وتعتبره عودا حميدا على طريقة توفيق الحكيم في كتابه عودة الروح إلى قواعد النظام السابق عودة مظفرة. وكما لم يعد من المحذور ولا من الإتيان بما لم يأت به الأوائل الكتابة عن الإخوان المسلمين وكأن فكرهم وحركتهم السياسية تمثيل مطابق لدين الله المنزل والنظر لأقوالهم وأفعالهم على أنها فرقان لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه،فإنه لم يعد بالمقابل ثمة حرج في الكتابة وتتبع عشرات المقالات التي تعتبر أن الإخوان المسلمين فكراً وحركة مجرد استذئاب سياسي جاءته الفرصة على طبق من ميدان التحرير لينتهز فرصة ثورة 25 يناير بعد ما تبدت بشائر نجاحها ويخطف الخطفة من فك الانتخابات البرلمانية والرئاسية.
وبالمثل فما أكثر الكتابات التي دافعت وتدافع عن الفلول وإن استحى بعضها من الانتساب لصريح التسمية وحاول التواري خلف أسماء أكثر مسالمة ونزاهة في مرجعية التجربة السياسية المصرية التي أججت شرارة الربيع العربي في أوجها الثوري بعد تونس مثل الحراك السياسي الشبابي وما يعرف في علم الاجتماع السياسي بالقوى الثورية السلمية الناعمة. وبالمقابل فما أسهل وإن استصعب البعض الكتابة عما لا خلاف عليه عند ذي لب،مثل الدور الطليعي لجيل الشباب في ثورة الشعب المصري 2011م وعن اختطاف حصتهم من المشاركة السياسية بأيدي الأجيال السابقة على تدرجاتها العمرية وأطيافها السياسية المتصارعة على السلطة وعن حق الشباب في “تمرد” يستعيد ما سلب منهم.
وفي هذا فالكتابة المفقودة اليوم من ساحة الرأي إلا ما ندر،هي ليس تلك الأنواع من الكتابة،بل الكتابة التي تقبل ولو على سبيل الافتراض بمقولة الإمام الشافعي رحمه الله “رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأيك خطأ يحتمل الصواب”. وهي كتابة تنطلق ولو على سبيل التجريب من القبول بإعطاء مساحة للأسئلة ولرؤية المشهد من جميع زوايا النظر،تسمح بتلمس كل الأبعاد بما فيها الأبعاد التي قد يخفيها خداع البصر،كما أنه الكتابة التي تحاول التحلي بفضيلة حسن الظن وفطنة الشك معا في فحص ذلك المركب المعقد لتفاعل عناصر الموقف السياسي المصري اليوم. فالكتابة التي نحن أحوج ما نحتاجها اليوم هي ليست كتابة إبراء الذمة أو كتابة الفزعة أو كتابة تسجيل موقفاً بقدر ما هي الكتابة التي تفكك الموقف إلى مكوناته الأولية والأساسية والطارئة والمكملة والفائضة أو الناقصة بحيادية لا تُدعى والتزام لا يدفع في محاولة الفهم أولا ومحاولة العقلنة ثانيا ومحاولة إضاءة شمعة ثالثا وعاشرا بدل أن نغرق في شتم بعضنا البعض واتهام كل منا للآخر بالتسبب في الظلام أو بالأحرى في الحريق الذي لن يكون أي منا سواء الأطراف القريبة أو البعيدة المتمصلحة أو المتضررة بمنأى عن الاكتواء بناره والغرق في ظلماته عاجلا أو آجلا. وهو الحريق والظلام الذي ليس لأي من أطراف الصراع على السلطة أن تدعي نظافة يدها من دخانه وناره،ربما نتيجة تجربتنا الطويلة في الاستبداد والاستسلام للاستبداد بما خلق لدينا إعاقات مزمنة في تعلم الديموقراطية. ولوكان تفجر وضعنا بمصر مقياساً بعد أقل من عام على انتخاب شعبي مراقب لكان على البانتجون أن ينقلب على الرئاسة الأمريكية المنتخبة بعد كل استطلاع رأي ترتفع فيه نسب انخفاض شعبية الرئيس وخاصة في وقت المحن الوطنية كتورط أمريكا سابقا في فيتنام وتورطها لاحقا في احتلال العراق أو ربما ماكان جونسون ليخلف نيكسون سلميا بعد فضيحة ووتر جيت.
ولو كان تصحيح الأخطاء بالأخطاء صحيحا لما عاشت الجزائر ذلك الصدام الأهلي المروع لما يقارب عقداً من الزمان.
على أنه في تصاعد وتيرة الحدث أصبح ليس هناك من ليس مسؤولا عن إيقاف الحريق. وفي هذا السياق ليس لنا أن نحمل القول القائل بموت النخبة المثقفة على محمل التسريح من مسؤولية التفكير المستقل، فالمعادل الموضوعي لقول موت النخبة هو القول بحياة الشعوب بما يعني ببساطة الإقرار بحق مختلف القوى الاجتماعية دون تجميد أو تمجيد في المشاركة السياسية وحرية الرأي والتعبير. وليس أيضا لقول أو حتى لواقع أن مشروع المد الثوري الذي خرج من معطف ما سمي بالربيع العربي جاء مخالفا لتوقعات أو نرجسيات طلائع الفكر الثوري ومثقفيه للنصف الثاني من القرن الماضي أن يؤدي ذلك إلى الغربة والانسحاب من واجب إعمال العقل فيما يجري أمامنا من جنون مصاحب للتحولات.
وهنا علينا جميعا أعني كل من يحمل عقلا وضميرا وكل المعنيين بكتابة الرأي والتحليل العلمي والمعنيين بالسؤال الوطني في بعده الفكري والسياسي وجوديا وثقافيا أن نفكر تفكيرا إبداعيا خارج الصندوق أوالصناديق المقفلة لهذا التوجه أو ذاك من توجهاتنا أو توجهات سوانا. فالموقف على أرض الواقع يتحرك بسرعة مرعبة وإذا لم نفكر تفكيرا علميا نقديا وإبداعيا في هذه اللحظة الفادحة من محنة الوطن العربي في مواجهة السؤال الخطير للحرية فمتى عسانا نجترح التفكير؟!
تعليقات ليست هامشية:
هل القرضاوي في مواجهة القرضاوي أو حرية الرأي مقابل الطاعة العمياء للفتوى؟ هذا سؤال من سيل الأسئلة التي أجدني في صحو النهار وسهر الليل محاصرة بها بأشد من محاصرة الجيش للإخوان وسوى الإخوان أو بأشد من محاصرة الإخوان للجيش ولسوى الجيش وبينما كل يتصارع على قميص الشعب أحاول محاولات لا أرجو لها نجاحا أو فشلا بل قليل من قلق الضمير في فهم ما يحدث.
لقد رأيت شخصيا في رسالة عبدالرحمن القرضاوي الابن،إن صحت،ليوسف القرضاوي الأب مؤشرا لتجربة جديدة تولد من رحم الحدث الشعبي والسياسي المصري في خلق مساحة نقدية للتخاطب السلمي والحوار بين قوى الشباب الثورية الناعمة وبين الأبوية الرعوية الفظة بمعناها الديني والاجتماعي-السياسي. وفي هذا فإن ليس المهم هو الاتفاق أوالاختلاف مع أي منهما ولكنه في إنزال الرأي منزلته كرأي قابل للصح والخطأ والتداخل بينهما دون النظر إليه كفتوى تفرض نفسها طوعا وكرها. فتوسيع مساحات التفكير المشترك والمستقل في آن هو أحد شروط الخروج من الأزمة الوطنية الطاحنة التي تعيشها المنطقة العربية سياسيا وعسكريا بأطرافها الواضحة والخفية من قوى الداخل والقوى العربية العربية والإقليمية والدولية.
وليس أخيرا فلا بد من القول إن مصر ميزان الذهب لذهاب ريح المنطقة بأسرها أو ربحها لحريتها وهذا ليس رهان سياسي بل رهان حياة. وهذا مربط السؤال الآن. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
Fowziyaat@hotmail.comTwitter: F@abukhalid