ما زلنا في صدد الحديث عن بعض من مميزات الدستور المغربي الجديد وسنتطرق في هاته المقالة إلى مسألة الحكامة. فلقد تردد هذا المصطلح اثنتي عشرة مرة في دستور سنة 2011، حيث كان له حضور وازن.
ففي الواقع يتعلق الأمر بمفهوم حديث العهد نسبياً في مدلوله الحالي، لكنه يتمتع بسلطة جذابة وقوية. ومن وجهة النظر هاته، ولأنه انتشر بسرعة كبيرة، هناك تخوف من أن يتراجع بسرعة أيضا.
وفي نفس الوقت، هناك الكثيرون ممن يرون فيه مفهوماً غير واضح يمكن لأي أحد أن يضع فيه ما يريد لأنّ نبل الأهداف لا يمنع تنوّع الوسائل من أجل الوصول إليها. وعلى الرغم من ذلك، فأولئك الذين ينادون بهذا المصطلح، يتسمون بالكرم في نواياهم، ومن هذا المنظور، يمكننا دراسة استعمال هذا المصطلح بالشكل الذي قام به المشرع الدستوري سنة 2011. فبعض المراجع عامة جداً لكي تحدد بدقة هذا المفهوم. وهكذا عندما أثارته الديباجة كأحد أسس مرتكزات الدولة الحديثة، أو عندما قدمها الفصل الأول كأحد ركائز النظام الدستوري الجديد، أو أيضاً عندما أراد مأسسة ضوابط “الحكامة الجيدة الأمنية” (الفصل 54) أو عندما طلب أخيراً من المجلس الأعلى للحسابات حماية مبادئ وقيم الحكامة الجيدة ... ويمكننا أن نضيف فصولاً كثيرة تضع المؤسسات تحت علامة الحكامة الجيدة (الفصول 18 و161 إلى 167). ففي الواقع، خصص الباب الثاني عشر بكامله لهذا المفهوم من وجهة نظر تشهد على الإرادة في التركيز على ثلاثة أوجه. ففي الفصول الأربعة الأولى، ينظر إلى الحكامة الجيدة على أنها تشكل مفهوماً لدعم المساهمة في تحسين المرافق العمومية، أي أن للجميع الحق في ولوجها دون اعتبار للجنس أو مكان الإقامة وفي إطار احترام معايير الجودة والشفافية والمسؤولية والمحاسبة والحياد (الفصل 154). ثم إنّ أعوان المرافق العامة مدعوون للبرهنة على احترام القانون والحياد والشفافية والنزاهة والتشبث بالمصلحة العامة (الفصل 155). أما المرافق العمومية، فيجب أن تستمع لمستعمليها، وأن تخضع لإلزامية المراقبة والتقويم (الفصل 156)، وبهذا الخصوص، هناك ميثاق المرافق العمومية الذي يحدد التزامات الإدارات العمومية (ويريد المشرع الدستوري أن تقول وبدون شك: “مرافق الدولة”)، والجماعات الترابية والمنظمات العمومية (الفصل 157). أما الفصل الموالي، فيحاول محاربة الفساد، بفرضه على كل من يمارس مسؤولية عمومية، أن يقدم تصريحاً بممتلكاته قبل وأثناء وبعد الخدمة، وهذا الإلزام شائع أكثر فأكثر في العالم كله تقريباً (الفصل 158). فمن المنطقي إذن تقريب هذه الفصول من الفصل 36 الطويل الذي يميل إلى محاربة الفساد من خلال إدانة تنازع المصالح، والمخالفات الناتجة عن استعمال المعلومة والجرائم المالية في الإدارات، خاصة منها تلك المرتبطة بتمرير وتدبير الصفقات العمومية، وأخيراً فضح الإتجار بالنفوذ والشطط في استعمال السلطة وااحتكار. وبالمثل، ينص الفصل 63 على وجود قواعد التعارض الخاصة بأعضاء غرفة المستشارين.
إن بعض المفاهيم المشتركة مع مفهوم الحكامة الجيدة غير مستعملة هنا بشكل مطلق. فمفهوم دولة الحق والذي عرف عودة قوية في نهاية القرن العشرين، لا يشار إليه إلاّ قليلاً في الدساتير الحديثة. في النص الدستوري المغربي لسنة 2011، تستعمل هاته الكلمة في بداية الديباجة. ومن ناحية أخرى، يؤكد على “مبادئ دستورية القواعد القانونية وتراتبيتها ووجوب نشرها” (الفصل 6). أما فيما يخص التشاور، وهي التقنية المعبأة غالباً لخدمة الحكامة الجيدة، فقد تمت الإشارة إليه بكلمات عامة في الفصل 13 الذي يعلن أن “السلطات العمومية تعمل على إحداث هيئات للتشاور قصد إشراك مختلف الفاعلين الاجتماعيين لإعداد وتفعيل وتنفيذ وتقويم السياسات العمومية”. وتعود السلطة الدستورية إلى هذه التقنية فيما يخص المجلس الأعلى للأمن (الفصل 54) من أجل دعوة مجالس الجماعات الترابية للاستعانة بهذه الميكانزمات (الفصل 139).
وإذا عدنا إلى الباب الثاني عشر، فسنجده ينتهي بجرد عشر هيئات قدمت على أساس أنها تتحمل الحماية والنهوض بحقوق الإنسان، الحكامة الجيدة وأخيراً التنمية البشرية المستدامة والديمقراطية التشاركية. وأغلب هذه الهيئات مسؤولة عن حماية حرية معينة، تأطير فئة منفردة، أو النهوض بسياسة عمومية خاصة، وغالباً ما تصبو إلى حماية الثلاثة في نفس الوقت، والتي تظهر عموماً في الدستور في نهاية كل فصل متعلق بهذه الحرية أو هذه الفئة أو هذه السياسة العمومية. يمكننا إذن أن نتعجب من جمعها في هذا الباب مع ذكر مجال تدخل كل واحدة منها والأهداف التي يجب عليها النهوض بها، في حين كان سيكون من المنطقي تقديم هذه المعلومات في الفصل أو الفصول التي تعنيها. ولكن قد نجد لهذا التجميع سبباً قانونياً، وهو أن الدستور ينص في الواقع على عدد من الإجراءات المشتركة بين كل هذه الهيئات، أي أنه يجب على كل هيئة تقديم تقرير سنوي إلى البرلمان الذي يناقشه الفصل 160)، ثم إن القانون هو الذي يسهر على تأليف هذه الهيئات وتنظيمها وتقديم صلاحياتها وقواعد تسييرها وحالات التنافي عند الاقتضاء (الفصل 171). وأخيراً يؤكد الدستور على أنّ “الهيئات المكلفة بالحكامة الجيدة هي هيئات مستقلة” (الفصل 159).
إنه من الطبيعي اعتبار أنّ المشرع الدستوري أراد من خلال هذا الجرد توضيح السياسة الجديدة التي انخرط فيها البلد بالتركيز على المزيد من الهيئات المستقلة والمكلفة بدعم ومراقبة السلطات العمومية. ويوجد هنا توجه واضح في العالم كله تقريباً، بدأ في الولايات المتحدة وانتقل إلى القارة العجوز، حيث اعتمد عليه الاتحاد الأوروبي بشكل كبير، كما استعمل بشكل خاص في فرنسا تحت اسم السلطات الإدارية المستقلة (AAI). فرغم الأسماء المختلفة التي تحملها (السلطة، الوكالة، المجلس، الهيئة ...)، فقد أعلن المغرب بوضوح عن وحدة الفكرة والنية التي تحكم إنشاءها وإن كان بعضها مثل مجلس المنافسة، قد وجد على الأقل رسمياً قبل 2011، لكنه حظي بشرف التنصيص عليه الآن في الدستور، وإن كانت هيئات أخرى ذات طبيعة خاصة شيئاً ما مثل المجلس الوطني لحقوق الإنسان أو الوسيط المكلف بالحريات العامة.
فباسم الحماية والنهوض بحقوق الإنسان، هناك المجلس الوطني لحقوق الإنسان والوسيط اللذان تمت الإشارة إليهما في الفصل 115، ومجلس الجالية المغربية المقيمة بالخارج المعلن عن أنشطته في الفصول 16 إلى 18 وهيئة المناصفة ومكافحة كل أشكال التمييز والتي أنشئت من طرف الفصل 19؛ وباسم هيئات الحكامة الجيدة والتنظيم، هناك الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري المشار إليها في الفصل 28، ومجلس المنافسة المحدث بظهير سنة 2000 والذي يحتاج إلى التعزيز، والهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها والتي أنشأها الفصل 36؛ وباسم هيئات النهوض بالتنمية البشرية والمستدامة والديمقراطية التشاركية، هناك المجلس الأعلى للتعليم والتكوين والبحث العلمي الذي أنشأه الفصل 32، والمجلس الاستشاري للشباب والعمل الجمعوي الذي أنشأه الفصل 33. ويمكننا أن نضيف إلى هذه اللائحة مجالس أخرى مع ذكر الخصائص التي سبقت الإشارة إلى بعضها أعلاه، مثل المجلس العلمي الأعلى (الفصل 41)، مجلس الوصاية (الفصل 44)، المجلس الأعلى للأمن (الفصل 54)، المجلس الأعلى للسلطة القضائية (الفصل 113) وأخيراً المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي الذي خصص له الباب الحادي عشر من الفصول 115 إلى 153.