منذ أن عرفت القلم والورقة، ودلفت بلاط صاحبة الجلالة وأنا أمقت أي تصنيف مهما كان.
في عام 1402 تقريباً حضرت مؤتمر قمة عربياً عُقد في الرياض، وكنت أعرِّف بنفسي للزملاء الصحفيين العرب كصحفي سعودي، وكان يصدمني سؤالهم المتكرر هل أنت إسلامي؟ وكان ردي دائماً أنا مسلم ولست إسلامياً، كنت أقول ذلك منطلقاً من مبدأ شرعي قبل كل شيء
بنص القرآن الكريم {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ} وكنت أقول إن زميلي الذي يكتب كتابة مخالفة ومتجاوزة هو مسلم، ولا يمكن أن نطلق عليه صفة غير هذه كون من منحه هذه الصفة عقيدته التي يؤمن بها.
المملكة العربية السعودية قبلة المسلمين ومنها انطلقت الرسالة التي دعت إلى التوحيد، ونبذت كل عصبية جاهلية فوحّدت القلوب على الأخوّة في الله (كلُّكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على عجمي إلاّ بالتقوى)، وهو القائل عليه الصلاة والسلام (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، هذا القول ليس موجها لنا كشعب المملكة العربية السعودية، وإنما للعالم أجمع، ولكن ما أعنيه هنا أننا في هذه البلاد حري بنا أن نكون أول من يطبق هذا المبدأ العظيم، مبدأ الكيان الواحد والعقيدة الواحدة والهدف الواحد.
في المدينة المنورة قبل أكثر من 1400 عام التقى بلال الحبشي وصهيب الرومي وسلمان الفارسي والعرب الأقحاح وقائدهم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وأسسوا الدولة الإسلامية على مبدأ عظيم وهو مبدأ توحيد الله الخالص، فجابت الجيوش الإسلامية الأرض رافعة راية التوحيد لا راية العرب ولا راية القبيلة، فكان تعامل شعوب الأرض مع هؤلاء الفاتحين على أنهم مسلمون ومسلمون فقط، ولذلك كان أثرهم الفكري والعقدي بالغ التأثير في هذه الشعوب مختلفة الديانات والثقافات.
وقبل ما يقارب أربعة قرون أسس الإمام محمد بن سعود الدولة السعودية الأولى على هذا المبدأ، مبدأ توحيد الله، وجمع الناس على ذلك، وكان سنده القوي في هذه الدعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب - رحمهما الله -
وفي عام 1319 للهجرة كان استرداد الرياض على يديْ الملك عبد العزيز بن عبد الر حمن الفيصل آل سعود، وكان الصوت الأول الذي سمعه أهل الرياض بعد دخول الملك عبد العزيز الرياض هو صوت العقيدة الصافية الصادقة (الملك لله .. ثم لعبد العزيز) لم يأت هذا الصوت هكذا، وإنما جاء ليوجه رسالة دستورية للناس بأن شرع الله هو ما سيطبق أي أن دستور هذه الدولة الفتية كتاب الله وسنّة رسوله.
سنوات وسنوات جاب الملك عبد العزيز أنحاء شبه الجزيرة العربية فوحّد أرضها ووحد شعبها ونزع كل عنصرية أو قبلية من قلوب الناس، فصار شعب المملكة العربية السعودية شعباً واحداً تحت قيادة واحدة.
بعد توحيد المملكة استقلت الكثير من الدول عن الاستعمار الأجنبي، ولكنها في الحقيقة دخلت في مشكلة أكبر ألا وهي مشكلة التحزبات ذو الجماعات المختلفة فكثر الخلاف ومعه الانقلابات بل وصل في بعض الأحوال إلى الاقتتال، مما جعل البعض يترحم على تصوير - التهامي عبد الرحيم أيام الاستعمار، بقيت المملكة صامدة في وحدتها منذ ذلك التاريخ إلى هذا اليوم، وما ذلك إلاّ بتوفيق الله أولاً ثم رفض شعبها وقيادتها لأي دعوة لتكوين أحزاب سياسية، ووقف العلماء بحزم وقوة في وجه هذه الدعوات.
يقول الشيخ محمد بن عثيمين - رحمه الله - عن الأحزاب والجماعات (ليس في الكتاب والسنّة ما يبيح تعدُّد الجماعات والأحزاب، بل إنّ في الكتاب والسنّة ما يذم ذلك قال تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}.
وفي شرح له - رحمه الله - للأربعين النووية قال: (إذا كثرت الأحزاب في الأمة فلا تنتم إلى حزب، فقد ظهرت طوائف من قديم الزمان مثل الخوارج والمعتزلة والجهمية والرافضة، ثم ظهرت أخيراً إخوانيون وسلفيون وتبليغيون وما أشبه ذلك، فكل هذه الفرق اجعلها على اليسار وعليك بالإمام وهو ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: “عَلَيكُم بِسُنَّتي وَسُنَّة الخُلَفَاء الرَاشِدين”.
ولا شك أن الواجب على جميع المسلمين أن يكون مذهبهم مذهب السلف لا الانتماء إلى حزب معيّن يسمّى السلفيين، والواجب أن تكون الأمة الإسلامية مذهبها مذهب السلف الصالح لا التحزب إلى من يسمّى (السلفيون) فهناك طريق السلف وهناك حزب يسمى (السلفيون) والمطلوب اتباع السلف، إلاّ أنّ الإخوة السلفيين هم أقرب الفرق إلى الصواب ولكن مشكلتهم كغيرهم أن بعض هذه الفرق يضلل بعضاً ويبدعه ويفسقه، ونحن لا ننكر هذا إذا كانوا مستحقين، لكننا ننكر معالجة هذه البدع بهذه الطريقة، والواجب أن يجتمع رؤساء هذه الفرق، ويقولون: بيننا كتاب الله عزّ وجل وسنّة رسوله فلنتحاكم إليهما لا إلى الأهواء والآراء، ولا إلى فلان أو فلان، فكلٌّ يخطئ ويصيب مهما بلغ من العلم والعبادة ولكن العصمة في دين الإسلام.
كما كان لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - جواباً قريباً من ذلك عندما سئل فقال: ليس في السُنّة ما يبيح تعدُّد الأحزاب والجماعات بل إنّ في الكتاب والسُنّة ما يذم ذلك, قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}، وقال تعالى: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} ولا شك أن هذه الأحزاب تتنافى مع ما أمر الله به, بل ما حث الله عليه في قوله: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}.
وقولُ بعضهم: إنه لا يمكن للدعوة أن تقوى إلا إذا كانت تحت حزب! نقول: هذا ليس بصحيح, بل إن الدعوة تقوى كل ما كان الإنسان منطوياً تحت كتاب الله وسُنّة رسوله صلى الله عليه وسلم متبعاً لآثار النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين. أ. هـ.
والمشاهد لواقع هذه الجماعات والأحزاب لا يحتاج إلى مزيد من نظر في أنها وبال وشر على المجتمع ولا يمكن أن تأتي بخير لا في شؤون الدنيا ولا في شؤون الدين.
إنّ من الغباء أن ترى هالكاً هلك وتسلك مسلكه! ونحن في المملكة العربية السعودية نحمد الله كثيراً على أننا حزب واحد، ونحمد لدولتنا وقوفها بصلابة ضد كل الدعوات التي طالبت بتكوين بعض الأحزاب.
لكن الشيء المؤلم والذي نبه إليه خادم الحرمين الشريفين وولي عهد في كلمتهما بمناسبة دخول شهر رمضان المبارك استغلال الدين في بعض القضايا التي تسيء للإسلام وأهله، وإنني أعتقد أن دعاة الأحزاب عندما تحطمت آمالهم في تكوين أحزاب سياسية حاولوا تشتيت المجتمع بهذه المسميات (وإن كان بعضها قديماً)، فما نسمعه من البعض أن هذا سروري وهذا جامي وذاك أخواني والآخر وهابي! مسميات وهمية لا وجود لها في حقيقة الأمر, لست جاهلاً ولا متجاهلاً بأن بعض طلاب العلم لهم مشايخهم ولهم آراؤهم وأفكارهم الخاصة، ولكن الأمر لا يصل إلى أن نصنف المجتمع بهذه الطريقة المقززة!!
منذ الأزل والعلماء يختلفون ويتفقون ولم يكن ذلك منقصة أو تقليلاً من مكانتهم، بل يعد منقبة لهؤلاء العلماء، فلولا الاختلاف لما حصلت هذه الحركة العلمية الكبيرة.
جامي.. أخواني.. سروري.. الخ مسميات تحاول أن تجد لها موطئ قدم في هذا الوطن صاحب الحزب الواحد (الكتاب والسنّة ) أو سمه حزب (الجماعة) ويروج لها للأسف الشديد بعض دعاة الوحدة الوطنية شعروا أو لم يشعروا، فمن يقول عن فلان من الدعاة بأنه سروري أو جامي أو أخواني.. هو في الحقيقة يفرق الصفوف ويشتت الجماعة، لا أعترض على أن نختلف فيما بيننا على بعض القضايا ولكنني ضد وبشدة هذه التسميات التي ما أنزل الله بها من سلطان.
تمنيت وما زلت أتمنى أن يجرم كل شخص يصم شخصاً آخر بأي من هذه المسميات, لأن ذلك هو السبيل الممهد لتفرقة المجتمع وتشتيت وحدته. للشيخ محمد ناصر الدين الألباني كلام نفيس حول التحزب، حيث يرى - رحمه الله - أن من آثار سلبيات التعصب للطوائف والأحزاب أنهم يعادون من لم يكن في تكتلهم وفي منهجهم ولو كان أخاً مسلماً صالحاً، فهم يعادونه لأنه لم ينضم لهذا التكتل الخاص أو التحزب الخاص.
ويضيف قائلاً: قد وصل بهم أن حزباً منهم يفرض على كل فرد من أفراد الحزب أن يتبنوا أي رأي يتبناه الحزب مهما كان هذا الرأي لا قيمة له من الناحية الإسلامية. وإذا لم يقتنع ذلك الفرد برأي من آراء الحزب. فُصل ولم يعتبر من هذا الحزب الذين يقولون إنه حزب إسلامي. ومعناه أنهم يعودون إلى ما يشبه اليهود والنصارى في اتباعهم لأحبارهم ورهبانهم في تحريمهم وتحليلهم. فقد قال الله تعالى: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ).
أختم هذه المقالة بكلام مهم وصادق للأمير الراحل نايف بن عبد العزيز - رحمه الله - الذي كان صاحب نظرة عميقة ورأي سديد في كثير من شؤون الحياة، يقول - رحمه الله -:
إن سلامة الإنسان وسعادته في الدنيا والآخرة مرهونة بسلامة فكره ومعتقده، ذلك أن الشخص الذي تزعزعت عقيدته وانحرف فكره سوف يكون عرضة للتيارات الفكرية الضالة التي تقوده إلى الهلاك والضياع، وتعرض حياته وحياة مجتمعه لمخاطر عديدة، من ذلك ما أتى به الإسلام حينما تؤثر فئة ممن ينتسبون لهذا الدين ولهذه الأمة من أفكار ووجهات منحرفة تخالف سماحة الإسلام وعدله ووسطيته التي نص عليه كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وسار عليها السلف الصالح رضوان الله عليهم والتزمت بها المملكة العربية السعودية قيادة وشعباً ورفضت ما يخالفها من تلك التكتلات الحزبية وهي التي يكون فيها ولاؤه للحزب أكثر من ما يكون للعقيدة الإيمانية التي لا تفرق بين عربي وأعجمي إلاّ بالتقوى.
والله المستعان ..
almajd858@hotmail.comتويتر: @almajed118