يتداول البعض في المجالس والمواقع الاجتماعية حديثا عن عجز الراتب الحكومي عن مواجهة الأعباء فضلا عن أن يصمد منه ولو نزر يسير ذخراً للشدائد، ويرون أن زيادة في الراتب أصبحت ماسّة وضرورية، غير أني أرى أن زيادة المرتبات ستزيد الأعباء والضيق.
إن ما يحتاج فعلا للنظر هو ثقافة الإسراف والاتكال التي غرست أطنابها بقوة بيننا حتى كدنا نتحول إلى مجتمع سطحي تحكمه المظاهر والشكليات، وفي البداية لابد من الاعتراف أولا أن المواطن ليس مسئولا عن بسط ونشر هذه الثقافة بل هو ضحيتها للأسف، وإذا كانت كثير من الرؤى قد تنوء بصاحبها في الترجمة والنقل للآخرين دون تصوير واقعي مشاهد ومألوف ليصل المعنى بوضوح ويسر فإن الأمثلة كثيرة ومتوفرة ولا تحتاج إلا لتأمل، عندما تمنع المرأة من قيادة السيارة لاعتبارات اجتماعية ثم لا تتدخل الجهة المناط بها رفع الوعي والثقافة لتعالج هذا الخطأ الاجتماعي فإنك تصبح ملزما بشراء سيارة واستقدام سائق من خارج البلاد وإسكانه وإعاشته وتحمل كافة مسئولياته، بالتأكيد هنا زادت الأعباء المالية لكن لا تحملها المرتب الشهري بل إن الذي يتحمل ذلك هو وعيك وفكرك، ومن قبل ذلك الجهة التوعوية التي عجزت عن أداء مهامها، لو تمت زيادة مرتبك من يضمن ألا تشتري سيارة أخرى لابنتك الثانية وتستقدم سائقا و.. إلخ ثم تعود للمطالبة بزيادة مرتبك؟!
وعندما تصبح ثقافة التغريم المالي للمخالفات المرورية أو التأخر في توثيق أو تجديد التوثيق لعامل أورخصة أو أي إجراء نظامي فإن الذي ينهش المرتب بهذه العقوبات المالية هي الجهة الخدمية التي عجزت عن دفع المواطن لاحترام نظم السير أو الإجراءات الرسمية في مواعيدها وربما أضافت عليه أعباء من بين أعبائها لتغطية عجزها، وزيادة المرتب لن تجدي طالما استمر هذا النزف، بل إن الجهة المسئولة عن التخطيط التي لم توفر وسائل النقل العام هي أيضا تساهم في نهش جزء من المرتب، بل أكثر من ذلك، فإن ثقافة حماية مصلحة الجمع على مصلحة الفرد تعصر وتنهش المرتب أيضا، والأمثلة أكثر من أن يستوعبها مقال، لكن الشاهد في الأمر هو أن زيادة المرتبات لا تعني حلا أو علاجا بقدر ما قد تزيد الأعباء.
ثم إذا كان استقدام العاملة المنزلية والسائق لم يعد “ فشخرة” وتمثيلا خداعيا نصنعه أو نتصنعه، حتى لا نواجه ضعفنا في تمحيص بعض مسلماتنا التي نكتشف يوما عن آخر تعطيلها وعرقلتها لسلامة مسارنا الدنيوي، بحجج نصنعها نحن ثم نصدقها ونحميها رغم إيماننا العميق بأن شرع الله صالح لكل زمان ومكان وأن الله أعلم منا بخلقه، فإن هذا التذبذب أيضا يزيد من الأعباء وينهش الدخل للفرد والمجتمع، ولست أفهم كيف يتحجج البعض بحاجته لعاملة منزلية بحجة وجود أطفال وانشغال الأم والأب بوظائفهم لولا أن جهة العمل التي توظف الأم والأب لم تهيئ الحضانة أو المدرسة ووسيلة المواصلات قبل التفكير بالتوظيف وإخراج الناس من بيوتها دون مراعاة لأسرهم، هذا أيضا أحد القوارض التي تقرض وتنهش في الدخل والمعاش.
إن منطق ومنهج النهش والقرض من دخول المواطنين على حساب الرؤية والتخطيط السليم لنظام اجتماعي عادل ومنصف هو الذي يحتاج لإعادة نظر وتصويب، وهذا لن يتم ما لم يظهر توجه قوي يتكفل بتمحيص وغربلة كثير من المسلمات الاجتماعية، عبر تصحيح الثقافة والوعي الاجتماعي ليس من خلال وسائل الإعلام والتوعية الحائطية، ولكن عبر تصحيح المنطق والمنهج الذي تتم على ضوئه بناء الرؤى والخطط والإدارة، من أسعده الحظ بمراجعة مكاتب خدمات المواطنين في الديوان الملكي سيعرف جيدا الفارق الهائل والشاسع بينه وبين باقي أفرع الخدمات الحكومية والخاصة، في مكاتب الديوان الملكي تشعر بمواطنتك وإنسانيتك التي تبحث عنها أحيانا في كثير من الأجهزة الأخرى عامة أو خاصة، لن يطلبوا منك تصوير مستند فلديهم آلة تصوير تم شراؤها لخدمتك دون أن ينقص من مرتبك هللة واحدة.
Hassan-Alyemni@hotmail.comTwitter: @HassanAlyemni