قبل الولوج مباشرة إلى الموضوع تحسن الإشارة إلى أن أسلوب (التلقين) لبعض العلوم في المؤسسات التعليمية والدعوية لاقى جدلاً كبيراً بين خبراء التربية والمناهج وبين بعض العلماء، وقد انتهت تلك المعارك الكلامية إلى تطوير محمود في بعض الممارسات التعليمية بالمناهج المطورة، بل رأينا المعترضون في فترة يسيرون في تيار من ينادي بالاعتماد على أساليب أخرى، كالفهم، والتحليل، والقدرة على الاستنتاج والاستنباط.
* أعود. نحن أمام التاريخ، أو ما يسمى (ملهم الشعوب) أو (معلم الشعوب) بين فئتين، يبدو في تناولهما له بعض الاختلاف الجذري، وقد امتدّ هذا الاختلاف من كونه بين أفراد متخصصين إلى اختلاف أساليب ومحتوى التاريخ الذي تقدمه كل دولة، أو مجتمع إلى ناشئتها، وهم على مقاعد الدرس، وفي طور التكوين العلمي، والثقافي، والاقتصادي، والاجتماعي، والسياسي. والتاريخ يرصد بدون تحفظ، والمؤرخون يدونون على قدر مناخ الحرية التي يتنسمونها في الأقاليم التي يستوطنونها، وعلى قدر استطاعتهم في الحصول على الحقائق في بيئات الأحداث. وما يندّ عن مؤرخ، أو يحاول تزييفه تحت أي ظرف نجد هناك فرداً، أو أفراد يتفقون على الحقائق، وهم على أيّ حال كانوا من التجويد، والإصابة، والدقة في التصوير، ونقل الحدث شهود عصرهم الثقات، وهم المؤتمنون على كل حقيقة، عظم أثرها، أو قل، وسوف يسألون، ما في ذلك من شك. والأجيال الوارثون للأرض وما عليها أمانة في أعناق المورثين.
* كثير من أوعية التاريخ، وفئة ليست بالقليلة من أساتذته، على أيّ مستوى كانوا، يجيدون أيّما إجادة، متى وقعت الحوادث؟ مع عرض للأسباب دون استقصاء. متى ولد ذلك القائد الملهم، أو ذلك العالِم النحرير؟ ومتى توفي؟ وأين؟ من سار في جنازته، ومن حضر في مواكب عزائه؟ وما أبرز آثاره العلمية؟ مع رصد غير قليل من الإنجازات!! ماذا قال عنه المعاصرون له، شعراً ونثراً؟ إلى غير ذلك من أحاديث عابرة عن بعض مواقفه، قد يتفق، أو يختلف عليها. هذه الأوعية، والناقلون لها، ليس لهما ذلك الأثر الكبير في تنشيط ذهن القارئ، وليس هناك أمام تلك المعلومات ما يدعو للتفاعل، أو التفكير، وشد الانتباه. وهنا تكون مادة المؤرخ، وأسلوب عرضها من مثالب التعليم في بعض الدول، وسبب من أسباب ضعفه، لأنه لم ينقل الإنسان القارئ إلى الواقع والمستقبل. والناس على اختلاف مللهم وأعراقهم يبدو الواقع والمستقبل هو محور تفكيرهم، ومثار اهتمامهم. وما سوى ذلك قد يكون تسلية، وإزجاء للوقت.
* وفئة أخرى من المؤرخين، أو أساتذته، منطلقين كل الانطلاق، هي بالفعل فئة مستنيرة ومنورة، يعمدون إلى خلق تاريخ آخر، يتجاوز الرصد التقليدي للحوادث والشخصيات، إذ نجد التحليل العميق، والتفسير والاستنباط، والمقارنة المنطقية التي تتيح للعقل، وتحفزه على التفكير، وهؤلاء هم الذين يفترض أن يتكئ عليهم صانع القرار السياسي، فهم يقودون الشعوب والمجتمعات إلى تجارب التاريخ بهفواته، ونجاحاته، وإنجازاته، وثمرة صراعاته، بكل صدق وأمانة، مهما لاقاهم من العنت والمشقة، أو أي لون من ألوان الحروب. هؤلاء لا يقفون عند عصر، ويتخصصون به، بل يسيرون مع التاريخ وأحداثه.
* لا جدال أن بعض مراحل التاريخ، وعصور صدر الإسلام بالذات كان لبعض المذاهب أثر كبير في محاولة عرضه، أو سرده بصورة غير متعمقة، وبالذات بعض المراحل الانتقالية التي شهدت تحزبات، وتكتلات، وصراعات، بل إن بعض العلماء ورجال الدين تجاوزوا إلى ما هو أبعد، إلى تحريم تحليل تلك المواقف، أو الخوض في تلك الحقبة، ولم يقف ذلك التحفظ على تلك المرحلة، إذ اتخذت منهجاً فيما بعد، حين تتضارب مع المصالح العامة، أو الخاصة.
* أخطر ما يمكن توظيفه من التاريخ، الماضي والحاضر هو أن يحاول البعض تكييف منعطفاته القوية بما يخدم قضيته، أو حزبه، أو تياره، أو توجه معين يؤمن به، ويدعو إليه ويتبناه، وبالتالي تغيب النظرة الشمولية لأحداث التاريخ، وتغيب القراءة الواقعية المنصفة.
(استدعاء)
* من أرض الكنانة يقول أحمد شوقي:
إذا وضع الأحياء تاريخ جيلهم
عرفت الملاحي منهمُ، والمحابيا
ومن سابق التاريخ لم يأمن الهوى
مُلجاً، ولم يسلم من الحقد نازيا
dr_alawees@hotmail.com