تحدثت في المقال الماضي عن الصحافية الحديدية، الأمريكية من أصل عربي، هيلين توماس، والتي عاصرت، وحاورت أكثر من عشرة رؤساء أمريكيين، كمراسلة، ثم كعميدة لمراسلي البيت الأبيض على مدى خمسة عقود، وكيف أنها انتقدت اسرائيل في لحظة صفاء مع النفس، ثم تحدثت عن الهجوم الذي شنه عليها الصهاينة، ومن شايعهم، وكيف أنها اضطرت للاعتذار، ونضيف هنا أن اعتذارها لم يشفع لها، فقد تعرضت للدولة المقدسة أمريكيا، فما كان منها إلا أن تقدمت باستقالتها من عملها كمراسلة في البيت الأبيض، بكل ما يحمله من برستيج، إذ لم يشفع لها تاريخها الطويل، ولا تميزها المهني، ولا علاقتها بدهاقنة السياسة الأمريكية على مدى أكثر من خمسين سنة، فقد كان لها حظوة خاصة لدى فطاحلة السياسة الأمريكية، وكان مؤلما للسيدة هيلين أن يشارك الرئيس باراك أوباما بحفلة الهجوم عليها، وهو الذي قال لها ذات يوم، وفي أول مؤتمر صحفي بالبيت الأبيض، بعد توليه الرئاسة مباشرة في 2009: «يشرفني أن أراك هنا.. هيلين»، ولعل هيلين تعلم أن الرئيس أوباما -ذاته- لا قبل له بايباك، ولا يراودني شك بأنها تدرك أن أوباما لا يعني ما يقول، وأنه يؤمن تماما بما قالته، ولكنه سياسي أمريكي في نهاية المطاف، ولا يمكن لسياسي أمريكي طموح إلا أن يشجب ما قالته عن إسرائيل!
وكعادة اليهود في ملاحقة من يتعرض لإسرائيل حتى يتخطفه الموت، وذلك ليكون عبرة لمن يعتبر، ومن لا يعتبر، فقد لاحقوا هيلين بعد استقالتها، وحاربوها في رزقها، فلم تتمكن من الحصول على عمل إلا بشق الأنفس، وهو عمل لا يليق بمقامها، ولا بتاريخها. هذا، مع أنها أحد رواد الإعلام الغربي بلا منازع! فهي التي قادت حربا لا هوادة فيها، حتى تم السماح بدخول المرأة في نادي الصحفيين الأمريكي قبل أربعة عقود، وهو النادي الذي كان مقصورا على الرجال فقط، قبل ذلك!، وتعتبر هيلين توماس هي الأم الروحية لكل الصحافيات البارعات حول العالم، أمثال باربرا وولترز، ولارا لوقن، وايمي قودمان، وديانا سوير، وكريشيان أمنبور، وغيرهن كثير، فهل كان هذا كافيا؟!
لا، لم يكن ذلك كافيا، فقد بلغ الأمر درجة أن خصومها طالبوا كثيرا من المؤسسات التي منحتها جوائز رفيعة أن تسحبها منها! وكانت قد حصلت على مئات الجوائز، من كثير من المؤسسات العريقة حول العالم، كما طالبوا الجامعات التي منحتها شهادات فخرية أن تسحبها منها، ويقدر عدد الجامعات التي كرمتها بشهادات فخرية بالعشرات، وهي جامعات عريقة جدا، وهو الأمر الذي استفز السياسي الأمريكي من أصل عربي رولف نادر، وهو شخصية محترمة عالميا، وأمريكيا، وسبق له الترشح للرئاسة الأمريكية عدة مرات، ولا يمكن أن يفوز، لأنه ببساطة سياسي محترم، ومحايد، ينشد العدالة، والحرية للجميع داخل أمريكا، وخارجها، فقد قال: «إنه من المعيب أن تلاحق السيدة هيلين بهذا الشكل المخزي، في الوقت الذي لا يكترث أحد لما تتعرض له الأقليات الأمريكية الأخرى، كالعرب، والهنود، واللاتينيين، وغيرهم»، وهو يعرف جيدا خفايا الحياة السياسية الأمريكية، وختاما، لقد رحلت هيلين توماس مرفوعة الرأس، بعد تاريخ طويل، ومثير، وحافل من العمل الإعلامي المحترف، ولئن حاولت ايباك طمس تاريخها، فإنها محاولات يائسة، فقد كانت السيدة «الحديدية»، وستظل، واحدة من أنجح الصحافيين العالميين خلال نصف القرن الأخير.
ahmad.alfarraj@hotmail.comتويتر @alfarraj2