الهوية الوطنية تتمثل في مقومات ثابتة وقيم ناظمة لها، بحكم التشبث المتواصل بها عبر العصور والأجيال، بحب صادق وبروابط فكرية ونفسية تشد هذه الأجيال وتجعل الكل يتفاعل معها، بإدراك عميق وحتى من دونه، أي بعفوية وتلقائية.
وهي في ثباتها، ومن ثم فإن الهوية كما يكتب العالم المغربي عباس الجراري هي التي تحث المشدودين بها وإليها على بناء الوطن وتنميته، والعمل على تقدمه والذود عنه وحفظ كرامته، وفتح آفاق مستقبله، وتجاوز الإكراهات التي تعتريه، ومواجهة العراقيل التي يصادفها في مسيره، والتصدي للأخطار التي تهدده، خارجية وداخلية، وخصوصاً تلك التي تكون نابعة من سوء فعل الذات، حائلة دون صون عزة أبناء هذا الوطن واحترام إنسانيتهم، وضمان نيل ما لهم من حقوق وأداء ما عليهم من واجبات، في ظل أحوال مستقرة وحكامة نزيهة، وعدالة تتحقق بها المساواة القائمة على تكافؤ الفرص وكذا التكافل بينهم، من غير أي شكل من أشكال التمايز والتفاضل، إلا ما كان راجعاً إلى مستوى الدفاع عن مكونات الهوية وما تفرضه درجة هذا الدفاع من جهود وتضحيات لا شك أن الناس في تقديمها متفاوتون.
ويمكننا مع سيدي عباس حصر المكونات التي بها تتشكل الهوية وتتفاعل في أربعة: أولها: الوطن الذي ينطلق من الأرض، أي من المكان وما يرتبط به من زمان يعكس تاريخه، ليشمل مختلف العناصر الطبيعية والبشرية، وما ينشأ عنها من أوضاع سياسية واقتصادية واجتماعية وأنماط سلوكية.
والوطن هنا هو المغرب المتميز بموقعه الجغرافي على رأس القارة الإفريقية، مشرفًا على بحرين عظيمين هما المتوسط والأطلسي، ومطلاً عن قرب على أوروبا في وضع وسط بين الشرق والغرب، أتاح له إضافة إلى ما يشكل بيئته من تنوع وتعدد أن يكون منفتحاً على حضارات وثقافات، كان على الدوام - وما زال - يتفاعل معها ويبادلها الأخذ والعطاء.
ثانيها: الدين بما يكون له من تأثير على معتقديه بشرائعه المكيفة لكل النظم التي تتحكم في سير الوطن، وما يترتب عنها من أفكار ومفاهيم وتصورات ومبادئ، بها يهتدي المواطنون ويقيسون كل شؤون حياتهم.
والدين في المغرب هو الإسلام الذي تجاوز كونه مجرد معتقد احتضن أقلية يهودية شاركته المواطنة بحرية وتسامح، فأصبح لقداسته والالتزام به رمزًا للهوية والوحدة الوطنية، وشعورًا باطنيًا في الوعي واللاوعي لا تتصور الحياة من دونه.
وقد نص الدستور في أماكن كثيرة على المكون الديني، مذكرًا في الفقرة الثانية من تصديره أن “المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة” “وأن الهوية المغربية تتميز بتبوؤ الدين الإسلامي مكان الصدارة فيها،” وكذا ذكره في الفصل الثالث من الباب الأول أن “الإسلام دين الدولة” مؤكدًا ما كان ألح عليه في الفصل الأول من هذا الباب في قوله الجامع ثوابت الهوية: “تستند الأمة في حياتها العامة على ثوابت جامعة تتمثل في الدين الإسلامي السمح، والوحدة الوطنية متعددة الروافد، والملكية الدستورية، والاختيار الديمقراطي”.
مما نص عليه الدستور في أماكن منه كالحرية والديمقراطية والحقوق الفردية والجماعية، بدءًا من الممارسة السياسية التي هي في الحقيقة جزء أساسي من تسيير شؤون الدولة في الإسلام وليست مناقضة له أو متعارضة معه، وإن وقع النص - تحفظاً - في الفصل السابع من الباب الأول على أنه “لا يجوز أن تؤسس الأحزاب السياسية على أساس ديني أو لغوي أو عرقي أو جهوي، وبصفة عامة على أي أساس من التمييز أو المخالفة لحقوق الإنسان”.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن أهل المغرب يأخذون بقاعدة البيعة الشرعية في تمليك ملوكهم. اقتداء، بما فعله الصحابة الكرام غداة وفاة رسول الله صلى الله علبه وسلم واختيارهم أبي بكر رضي الله عنه أول خليفة له.
وقد أصبح الأخذ بهذه القاعدة عندهم سنة منيعة لم يعدلوا عنها منذ مبايعتهم للإمام إدريس بن عبد الله أول ملوك الدولة الإدريسية بالمغرب، وفد توالى بعده الأئمة المبايعون إلى أمير المؤمنين محمد السادس، نصره الله وأيده، ولهم في ذلك تقاليد مرعية.
فعندما يموت ملك، أو يخلع من الملك، أو يعجز عن القيام بأعبائه، يجتمع أولو الأمر من رجال الدولة وأعيان الأمة، فيتبادلون الرأي والمشورة فيمن يصلح للملك من بعده طبقاً للشروط المنصوص عليها عند فقهاء هذا الشأن، فإذا اختاروه وانعقد عليه إجماعهم، عقدوا له البيعة، أما إذا كان المرشح معهودًا له بالأمر في حياة سلفه فإن البيعة تكون مجرد تزكية لعهد أخذه من قبل.
ومما تتميز به بيعة أهل المغرب، أنها تتم عن طريق ممثلي الأمة، علماءً، وأشرافاً، وأعياناً، وتكون الكلمة العليا فيها للعلماء باعتبارهم حملة الشريعة المطلعين على أسرارها، والمسؤولين أمام الله أكثر من غيرهم عن نصح المسلمين وإرشادهم إلى ما فيه نفعهم وصلاحهم، ودرء كل مفسدة عنهم، ووقايتهم من كل زيغ وانحراف عن جادة الدين وصراطه المستقيم.
ومنها، أيضا، أنها عقد مكتوب، يشهد فيه عدول الأمة، وقضاتها على المبايعين بالسمع والطاعة للإمام المبايع. فإذا تم الإشهاد دعي للإمام بصيغ الدعاء المخزنية المعروفة، التي لا يدعى بها إلا للملوك، ثم تدق حينئذ الطبول وتنفخ المزامير وتطلق المدافع ابتهاجًا بالملك الجديد .
ومنها، كذلك، أن نصوصها كانت تعلق في صدر أقدس الأمكنة في البلد، كالمساجد الجامعة إبرازًا لشرعيتها وإعلانًا عن دوامها واستمرارها، على أن البيعة كيفما كانت صفات الذين عقدوها، والجهات التي عقدت فيها لم تكن في الماضي ماضية الأثر، سارية المفعول إلا إذا أقرها علماء جامع القرويين بفاس، وعلماء كلية ابن يوسف بمراكش.
ومما تجدر الإشارة إليه أن البيعة الكبرى التي تعقدها الهيأة العلمية والمخزنية ينتقى لإنشائها أبرع الكتاب، ويدعى لكتابتها أمهر الخطاطين، فتكون متونها وخطوطها، كأنها قطعه فنية تتلألأ في جيد الأدب الرائق المتميز.
إن الملك في المغرب، ولو أنه ينتقل من الأب إلى الابن بحكم العهد المسلم المعروف، فإنه لابد من كتابته إحياء لسنة السلف، ولعرف جرى عليه سلف هذه الأمة ذات الولع الشديد بالتثبت والتأكيد والتمسك بالتقاليد والأعراف، مع حبها للتجديد في محافظة على التليد.
ثالثهما: اللغة باعتبارها وسيلة تواصل وبنية خطاب، ووعاء فكر وأداة تعبير عن الإبداع الأدبي والفني، والكشف عن المشاعر والأحاسيس.
واللغة في المغرب هي العربية الفصحى، مع ما يعايشها ويغنيها من لغات ولهجات محلية، بدءًا من الأمازيغية والحسانية وسائر العاميات العربية المنتشرة في البوادي والحواضر.
رابعها: الثقافة، بدءًا من هذا التراث الذي تراكم عبر العصور والأجيال، إلى ما يجد من إنشاء أبناء الوطن في سائر المجالات العقلية والروحية والعاطفية وما إليها من مهارات تنم عن ذاتهم وشخصيتهم.
وبهذه المقومات وما يطبعها من سمات، تصبح الهوية الوطنية طاقة تحث على معرفة الذات وما لهذه الذات من عبقرية ونبوغ، وما لها من قدرات على توجيه متطلبات بناء الوطن وما يقتضي من مواقف. وهي قبل هذا وبعد تتضمن ما هو ثابت قابل للبقاء والاستمرار، بحكم ارتباطه بعناصر تاريخية واجتماعية وفكرية ونفسية. كما أنها تتضمن ما هو متحرك بسبب خضوعه لعوامل المجتمع التي تجنح إلى التطوير وربما التغيير.