لا أحد يملك الشجاعة ليقولَ الحق، بحيث لا تأخذه فيه لومة لائم، ولا أحد يملك القدرة على التخلي عن عقدة الأبوية، بحيث يفكر بما يجب أن يكون.
ولا أحد يملك الثقة بالنفس فيشهد ولو على نفسه، لتسود المصداقية. ومن شَذَّ عمَّا ذُكِر، فقد كرَّس القاعدة.
طوفان القول الذي تتكسر أمواجه لتعود من جديد مرتهنٌ لتزكية الذات، وتَضْخيمها، وإدانة الآخر، وتحقيره. ولو تَخلَّت النخب عن تأليه الهوى، ولو ساعة من نهارلبدت للجميع السوءة تماماً مثلما بدت لآدم وزوجه، حين أكلا من الشجرة.
وكم كان بودي لو كانت هناك شَجَرَةٌ فاتنةٌ، يكمن في ثمرهاكشف الزيف، ليتعرى الساسة الحِرْباويُّون، والمفكرون المُضِلُّون، والعلماء المُدْهِنُون، والإعلاميون المُتَزلِّفُون، وينتهي الدوران في الحلقات المفرغة. العالم الثالث لمَّا يزل طَرِيدةً منهكةً، ينتابه الأقوياءُ من كل جانب، يستغلون خيراته، ويستثمرون طاقاته، ويُحَرِّشون بين أطيافه. وكلما نهض من كبوة تردى في أخرى. وكأنه بهذه النمطية يُمَثِّل [سِيزيف] وصَخْرتِه التي ظل يَحْملها من أسفل الجبل إلى أعلاه، فإذا وصل بها القمة تدحرجت إلى الوادي، فيعود إلى رفعها إلى القمة من جديد، ومن ثم أصبح بهذه الأسطورة رمز العذاب الأبدي.
هذا العذاب السَّرْمدي هو واقع عالمنا العربي. لقد اقتسمه الأقوياء غنيمة باردة، وحطوا في أرجائه رحالهم، ليصنعوه على أعينهم، فكان أن فرقوا ليسودوا، وجَوَّعوا ليُتْبعُوا، وأخافوا ليسيطروا، وحين تجرع العرب مرارة الذل والهوان تململوا من تحت ذلك الركام، فولَّى الاستعمار الأدبار. ولكنه ظل كالشيطان يجري في الجسم العربي مجرى الدم، وقامت دويلاته التي رسمتها اتفاقية [سايكس بيوكو] على أنظمة مختلفة.
ولما تنفس الصُّعداء، وبدأ يذوق طعم الحرية بمقدار، بدأت الانقلابات العسكرية، وتفرقت الشعوب العربية من بعد ما حُكمت من أبنائها، فكانت شِيَعاً يضرب بعضها رقاب بعض، وتولى كبْر ذلك جنرالات الجيش، فكان الظلم والجور. وتمنت بعض الشعوب العربية عودة الاستعمار الأجنبي الذي يختلف معها ديانة، وحضارة، ولغة.
لقد تطلعت الشعوب العربية إلى الوعود المعْسُولة من الانقلابيين، وظهر مصطلح [الحُرِّية] و[الديموقراطية] و[حقوق الإنسان] ومُلئت الصحف بلذيذ القول، وسديد الكلام. ولكن الشوارع والساحات مُلئت حَرَساً شديداً وشهباً، وعاد الشعب العربي مستعبداً من أبنائه، وهذا من ظلم ذوي القربى. وتوسل المبدعون بالأسطورة والرمزلتجسيد الواقع المرير، ولكن الرأي العام لم تَرْقَ ذهنيته إلى هذا المستوى، ليتلقى الرسالة، ومن ثم أصبحت السرديات السياسية دُوْلَةً بين صَفْوة الصَّفْوة.
ولما لم تُفلح الانقلابات: البيضاء والحمراء، بدأت ثورات الشعوب، وتساقط المتسلطون كورق الخريف، وأصبحوا هشيماً تذروه الرياح.
وخلت القصور، والثكنات من المتَفَرْعِنين، وتنفست الشعوب عبق الحرية، وذهب الخوف، وأقْوَت السجون والمعتقلات إلا من رموز الأنظمة الظالمة، وتفاءل الناس خيراً، واتجهوا إلى صناديق الاقتراع، واختيرت حكومات شعبية، وكان من المتوقع أن يَتْرك [سيزيف] صَخْرتَه في قعر الوادي، غير أن العذاب الأبدي، ظل كالمارد يلاحق الإنسان العربي. لقد قامت الأحزاب، والمنظمات، والتنظيمات، وتنازعوا أمرهم بينهم، وها هي الشعوب التي أَسْقَطَتْ أنظمتها بالمظاهرات، والاعتصامات، والإضرابات، تعود لتُسقط زعماءها الجدد بذات الطريقة. لا لأنها لم تفعل ما أمرت به من الشارع، ولكن لأن الأحزاب الخاسرة، والنخب المهمشة، والطوائف، والأطياف المُجَنَّدة، والقوى الكبرى الخائفة على مصالحها، كل أولئك يريدون أن يعرفوا حصتهم من الكعكة، ثم إن الأحزاب الفائزة قَدَّمت مصالحها على مصالح الوطن، وجاءت مثقلة بـ[أجِنْدة] لم تكن من أولويات الشارع السياسي. وكل تكتل تمتد إليه أيدٍ خارجية بالدعم، والتحريض تظل فيه الشعوب العربية مرتهنة للعذاب الأبدي، الذي تمثله تلك الصَّخْرة، وذلك الرجل الأسطوري. إن العالم العربي التعيس الذي رَمَّتْ جروحه على فساد بحاجة إلى تفكيكٍ جَسُور لكافة أبنيته،كي يعرف علَّته، ويسلك الطريق القاصد، مُتخلصاً من دعاوى الحياد، والانحْياز، واللعب القذرة.
المؤكد أن السياسة العربية موبوءة، وهي في غدوها ورواحها إما: شرقية أو غربية، ومفهومها المعوج: أن الأمانة غنيمة، وليست مسؤولية. ولهذا فالأحزاب تريد حَقَّها من تلك الأنفال. ولو عَرَفَتْ أن الأمانة عُرضت على السماوات والأرض والجبال، فأبت حملها، وأشفقت منها، وحَمَلَها الإنسان لظلمه وجهله لتدافعتها، وأشفقت منها.
لقد أجريت الانتخابات، ووصل من وصل إلى سِدة الحكم، ولكن بعض منهم جاء بمفاهيمٍ لا يستقيم معها العدل، ولا تتحقق المساواة، فكان أن عادت الشعوب إلى مربعاتها الأولى، واضطرت لاستعادة آلياتها التي أسقطت بها الظَّلمة، ولربما تتآكل الأحزاب لتُهيَّئ الأمةُ لمفترس جديد.
داء الشعوب، أن هناك جيوباً لا يمكن الفكاك منها، فالأنظمة الساقطة، سَقَطَ رموزُها، وبقيت ذيولها. وقطْعُ ذنب الأفعى دون اتباع الرأس للذنب، يُبْقِى الخطر، ويذكي أوار الفتن.
والاستعمار البغيض بغزوه وتآمره، مزروع في وجدان الطابور الخامس، والملفات الملغومة جاهزة للفتح في أي لحظة، إذ كلما شارف شعبٌ على السلامة حُركت تلك الملفات، فعاد إلى الشقاء، مثلما تتدحرج صخرة [سيزيف] من القمة إلى السفح، محققة بهذا استمرار العذاب الأبدي. وفي النهاية فإن الشعوب العربية هي التي تصنع مأساتَها، ذلك أنها كمن يقرأ القرآن، ثم لا يبلغ تراقيه، ومن ثم يمرقون من الشعارات الزائفة، كما يمرق السهم من الرمية.
في الميادين والساحات تحلو لك الشعارات، وتطربك الهتافات، ولكن الأصابع التي تحرك العرائس على مسرحها، تمتلك لغة عصية الفهم، بعيدة المنال. وأمام انهيار القيم، وتعري السَّوْءات لابد من تفكيك البنى التحتية بقوة وجسارة، وإعادة البناء من جديد، فالهتافات، وزائف القول لا تصنع الأمة الواعية. والنخب يعجبك قولهم، ويبهرك تنظيرهم، وتروق لك وعودهم، ولكن المسافة بين الواقع والمؤمل مسافة ضوئية، ومن المستحيل تلاقيها.
لقد ظلت الشعوب العربية تُحْكم بالمؤمَّل، وهي قد مَرَدَتْ على الواقع بكل زيفه وزبده. فهل إلى عودة راشدة من سبيل؟ لا شيء مستحيلا، متى كان الوطن للجميع، وفوق الجميع، بحيث لا يكون ولاء للحزب، ولا تصنيم للأناسي، ولا تزكية للأنفس، ولا طموح يُنسي الممكن والمباح، ولا أثرة تُصادر حق المستضعفين، لقد تخطت [الثورة الفرنسية] فوضويتها ودمويتها، واستقامت على الطريقة. فشرب الشعب ماء غدقاً. وأذعن الغرب لشعاراتهم، وحققوا آمالهم، فساد العدل، والحرية، والمساواة، وأصبحت الشعوب عاملة وعائلة للدولة، وأصبحت الدولة خادمة للشعوب.
فهل تستطيع الشعوب العربية تَرْك الصخرة في قعر الوادي بعد هذا العذاب المستطير.
{إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم} (الرعد:11).