السباق بين شهوة السلطة وشهوة الأمل:
كنت سأرتق شبكية عيني المتطايرة بعيداً عن محجري، وأمضي ببلادة في متابعة الشاشة أو التوغل في غابات المخالب والأفاعي والغربان والخفافيش والثعالب التي تعيث في عشائي أمامي،
وتقبض بتشفٍ مريع على أعناق الشعب لمجرد شهوة الانتقام لأن جيل الشباب تجرأ على التعبير عن شهوة الأمل وعمّم العدوى. غير أن الشق كان أوسع من تحمّل البصر، وأزيز الرصاص وفحيح السلاح الأبيض وسعار العُصي وسواها من الأصوات الكاسرة مما يصعب تبيّن نوعه أو مصدره أو أطرافه الأخطبوطية كانت أسرع من حاسة السمع. بدا ظهري لكاميرات العالم على مدار نشرات الأخبار مكشوفاً من الفرات إلى النيل تتناوشه أيدي الغدر الخفيّة بوقاحة فاضحة. ولم يعد أمامي ومشاهد الدم تتدفق من كاحلي إلى ما فوق الركب ومن أعلى العنق إلى ما تحت الضلوع إلا تعلم أن أبصر في غياهب الظلام أشباح الغيلة منا وممن نسميهم الأغيار أو الأشرار وأسمع في صلصة الصمت المريب تلك الهمهمات المبهمة التي تخرج من حناجرنا وحناجر سوانا على حد سواء.
هل من أحد أو بلد بمنأى؟
تمزق قزحيتي وتطاير الشرر من عيوني وعيون الملايين المعلّقة بالشاشات، تساقط أسناني دفعة واحدة فقدان شعر رأسي وانقلاع أظافري لم يكن مرعباً بما يكفي لمضاهات فجيعة جنائز الشباب الجماعية وهي تنتقل بخفة مريعة على مدى عشرة أعوام من العراق إلى بلاد الشام تحط في مصر وتحول أحلام الحرية إلى كوابيس بواح لا تريد التوقف على الأقل من ملاحقة المنطقة العربية بأسرها كمحاق مطبق لن يكون أحد أو بلد بمنأى عن شر مستطير جراء جنونه.
وضوح المشهد وتشوش الرؤية:
من شام إلى يمن شعب يلوّح سلمياً براية الحرية ونيران صديقة أو عدوة فالأمر سيّان، تهدّد سلمه الاجتماعي وتكسر شوكته وتقلب المشهد الحالم إلى حالة سريالية من العسكرة والانقسام. شعب أعزل يحاكم بتهمة الإرهاب وإرهاب يمشي طليقاً يقتنص المصلين وبنات المدارس والشعراء والغاوين وعرائس الأفراح وخريجي الجامعات كشعب فائض على حاجة السلطات. نمشي شباباً ونساءً وأطفالاً في شوارع عواصم العالم العربي لا ننعم إلا بالرعب من ألا نعود نعرف إن كان كل منا هو العدو أو الصديق أو كليهما ومتى ينقلب الواحد منا ضد نفسه أو ينقسم بينه وبينه. كان كل منا يبحث عن حظه في الكرامة والحرية فخلطت الأوراق ليتحول ذلك البحث إلى علاقة ملتبسة بهذا الحق تتشوّش فيها الرؤية وتتراجع فيها القدرة على الرشد والعقلانية.
الكواكبي محمد عبدو، قاسم أمين، قطب، البستاني، قسطنطين، زريق، الوردي، ابن خلدون مي زيادة، جبران خليل جبران، عائشة عبدالرحمن، إدوارد سعيد، زينب فواز، طه حسين، عبدالوهاب المسيري، ابن رشد، فؤاد زكريا، لطيفة الزيات، الشرابي، الغزالي، العقاد، نجيب محفوظ، محمود أمين العالم، غيث، الخولي، الشعراوي، الجابري. يمر أبناء المراحل وبناتها منذ سقوط غرناطة إلى الثورة العربية الكبرى، من مطلع مشروع النهضة العربي إلى ما بعد سقوط القدس، سقوط بغداد وتفلت فلسطين وليس إلا تراكم الانكسارات وتغوّل هيبة الخيبات. وليس من يسأل أين الخلل وإلى متى نقبض على جمرة الحلم فيخوننا التأويل وتكتوي أرواحنا بنار المزيد من تشظي الوطن وتشتت الفكر والأمر.
ريش الشباب:
لا أستطيع أن أخفي ما ينتابني من قلق العقل وأرق الضمير في تأمل “عربة النار” التي أشك أنه ليس منا إلا وله مقعد محجوز على متنها باسمه ونوعه ومرجعيته الفكرية وعرقه ومعتقده وهواياته ورائحة جلده. لذا ففيما يراود رمضان جريدي العنزي الهرب من الكتابة لئلا يمر بالنهر مرتين، وفيما يحاول عبدالله ثابت كتابة إبداع يلتمع رعباً إلا أنه عبثاً ينافس رعب الواقع، وفيما تكتب رشا عمران من تفجع الشام بانورما الموت والوحشة، بينما تدوّن لينا التونسية عقود ياسمين الغضب، يبدو ما أكتبه مجرد محاولة من عاشقة معمرة لانتحال ما يتطاير من ريش الشباب. علّنا بشوك الريش نغزل حلم الحرية من جديد أو على الأقل لا نتركه نهباً لمن يريد اسخدامه في إعادة إنتاج بيت الطاعة لشعوب خرجت عليه.
أحمد العلي وغواية التفاحة:
ذكّرتني يا أحمد بكتابتك المنحوتة من ماء الشعر عن شظايا أحلام العابرين بإسمنت نييورك أو حلمها السوداوي وأشجانهم المفرطة في الهزيمة أو الزهو، بـ”كمين الأمكنة”، سفر تسعيني معتق من التسعينات الميلادية خطته أجنحتي على الملحق الثقافي لجريدة اليوم بالمنطقة الشرقية التي أعشق تشابكها بالنخل وشرك النفط والتخمين. كان “كمين الأمكنة “ محاولة محفوفة بالتحدي للتحرر من الجسد والمكان وسواه من سلطات الحدود أو الجاذبية. الآن أتابع إبداعاتك في ملاحقة مصاب الندى والنار عبر رحلتك الأمريكية وتشردك المتشهب بين إرث التمرد الصعاليكي وشبهة الجنوح الوجودي محفوفاً برائحة “التفاحة / نييورك “، فتنتابني دهشة فاتنة. غير أن أسوأ ما فيها هو شعور الذنب الغامر الذي تنفثه في أعصابي وأنا ممزقة بين تلك الفتنة الشعرية المرهفة وفتنة التفجع النفاذ الذي نعيشه في الشارع العربي. فكيف بالله لنا أن تعيش ليوم آخر لولا شهوة الأمل والتحايل على الحلكة بجدوى العبث بمعناه الإبداعي أو بمعناه العدمي لا سمح الله.
Fowziyaat@hotmail.comTwitter: F@abukhalid