هم يعايروننا بالتخلف والفوضى والتقوقع والكبت ومصادرة حقوق الأقليات والفئات الأضعف ومعاداة حرية الفكر، ونحن نعايرهم بعبادة المادة ونقص الإيمان والانحلال الأخلاقي والتفكك الاجتماعي، ولكن لا أحد يتغيا الحقيقة، لا نحن ولا هم. المسألة الحقيقية هي افتراق المفاهيم للحياة والحضارة والتنافس والتعايش. في جيب هذه المسألة الافتراقية تقبع حقيقة أخرى، هي أن ملابسنا وطعامنا وشرابنا ودواءنا ومركباتنا وأدواتنا المنزلية وكل تلك الأشياء التي لا نستغني عنها، نعتمد فيها عليهم بالكامل. الأسوأ من كل ذلك السلاح الذي نقتل به بعضنا، نشتريه منهم في صفقات موسمية متسلسلة وبأسعار وشروط تأكل الأخضر واليابس. إذاً أين يقع الخلل الأكبر وفي أي جانب؟ هنا لا بد من وقفة عاقلة ومحايدة كخطوة أولى للتصحيح.
المجتمعات المحبطة والمرتبكة بسبب التخلف العلمي والتقني والحقوقي تلجأ عادة وغريزياً إلى توزيع الاتهامات على من تقدم عليها، بانحلال الأخلاق والتفكك الاجتماعي ونقص الإيمان وعبادة المادة. في جعبة المحبط يوجد الكثير من الأوصاف لمن يتحكم فعلياً بحاجاته الضرورية والكمالية، كمحاولة للتخلص ولو من جزء قليل من الاحتقان والإحباط. من المفروغ منه أن الذي تقع عليه الشتائم والأوصاف الانتقاصية لن يلتفت بسبب ذلك إلى الخلف، طالما أن الاحتجاج يقع في خانة الكلام والصراخ فقط. يختلف الأمر جذرياً حين يشعر المشتوم بأن الشاتم بدأ يلتزم الصمت وأخذ في التحرك ومحاولة الصعود إلى القمة. هذا هو التهديد الحقيقي الذي يخاف منه المتقدم في السباق، يخاف فقط من المزاحمة على القمة لأنها صغيرة المساحة. الأسفل أكبر وأوسع ويستوعب أعداداً أكثر من العاجزين عن الصعود. المشتوم يعرف جيداً أيضاً أنه كان على المحتج بالمعايرة والصراخ أن يتثبت من حقيقة واقعه الأخلاقي والاجتماعي والإيماني والحقوقي قبل تزكية نفسه وشتم الآخرين.
ترى ماذا سوف يتضح لو أخضعت المواصفات الأخلاقية التطبيقية لشروط البرهان العلمي المدعم بالوقائع والأرقام، وتمت الدراسة بمقاييس التحليل العلمي المقارن؟
أهم أنواع الانحلال الأخلاقي هي ممارسات العلاقات الفحشية والمخدرات واستلاب الحقوق، وهي موبقات محرمة في كل الشرائع السماوية والوضعية، لذلك يجب أن يكون السؤال حول وجود فروقات جوهرية في التطبيق مع ترك الادعاءات الخطابية جانباً.
قد يوجد فروقات كمية بين المجتمعات المختلفة نتيجة لسهولة الحصول على الممارسات المحرمة في بعضها وصعوبتها في أخرى، ولكن ليس بالضرورة لأسباب أخلاقية منضبطة. هنا يصبح السؤال الأهم هو هل توجد فروق أخلاقية نوعية في التطبيق؟
الملاحظ في المجتمعات المسماة بالمحافظة والمتعففة أن ممارساتها السيئة تحدث خلف الكواليس، وراء الجدران، تحت جنح الظلام، أو في ما وراء الحدود الجغرافية، وبكميات كبيرة لكن أرقامها لا تخضع عمدًا للرصد. في المجتمعات المسماة بالمتحللة أو المتحررة ترتكب السيئات والموبقات في العلن، بالتراضي، وتحت حماية القانون الوضعي، وذلك يلغي الحاجة إلى ممارسة التقية والتستر أو السفر إلى الخارج بنية ارتكاب هذه الأعمال السيئة.
عند التدقيق الإحصائي العلمي المقارن سوف يتضح أن المجتمعات التي تدعي العفاف والمحافظة ليست أقل جنوجاً أخلاقياً من غيرها، ولكن بطريقة التقية والتستر كمطلب اجتماعي لاستمرار الحياة بشروطها المتفق عليها. زواجات المسيار والمسفار والإجازة وما إلى ذلك، وما يرتكب داخل سراديبها من انتهاكات أخلاقية وغير شرعية تقدم أمثلة واضحة على احتيال المجتمعات التي تدعي المحافظة، للقفز على مظاهرها الأخلاقية المعلنة. ما يرتكبه السياح من المجتمعات المحافظة خارج الحدود قد يفوق في الكمية والنوعية ما يقوم به السياح من الدول الأخرى.
عندما ننتقل إلى تهمة التفكك الاجتماعي، بمعنى التحلل من المسؤولية تجاه كبار السن والعاجزين والمعوزين وذوي الإعاقات، ونحلل إحصائياً بالأرقام شواهدها في المجتمعات التي تدعي العفاف والروحانية، مع المجتمعات المتهمة بالنزعة المادية، ترى ماذا سوف نجد؟ لا أحد يستطيع أن يدعي دون خجل أن أوضاع المسنين والمتقاعدين والعاجزين والأرامل والأيتام والمعوزين والمعوقين في أي دولة تتمظهر بالمحافظة الطهرانية، أفضل من أوضاع هذه الفئات المذكورة في المجتمعات المتهمة بالعبودية المادية والتفكك الاجتماعي. الفرق النوعي شاسع بكل المقاييس، ووسائل التواصل الحي بالصوت والصورة لأوضاع العالم اليوم تكشف ذلك.
أما بخصوص الاتهامات بنقص الإيمان أو ادعاء اكتماله، تكفي متابعة يوم واحد لأخبار القتل والسحل والاغتصاب والتحرش والنحر بالسكاكين، وواقع انتشارها الجغرافي، تكفي ليتعرف العاقل على الحقيقة.
الخلاصة تكمن في العودة إلى أول المقال: المجتمعات المرتبكة والمحبطة بسبب التخلف العلمي والتقني والحقوقي تلجأ إلى توزيع الاتهامات على المتقدمين عليها، ثم تستمر في الفتك بمكوناتها الذاتية للأسباب نفسها.
الرياض