ولَم تكن الخطابة في نظر (أفلاطون) أسعد حظاً من الشعر، فقد عاصر (السفسطائيين) في أوج مَجدهم، وعاصر ازدهار فنِّ الخطابة على أيديهم قولاً في المجامع والمحافل، وتعلُّماً لطالبي المجد وذيوع الصيت، وتَملُّق الجماهير؛ ابتغاء الوصول إلى مناصب القيادة.
وقد كان (أفلاطون) في موقفه من أولئك الخطباء يُمثِّل وجهة نظر الفيلسوف الأخلاقي الذي يُعنى بالحقيقة، ويُحاول بناء المجتمع السليم الكامل.
ونرى (أفلاطون) ينبري لِمهاجَمة (السفسطائيين) في عددٍ من مَحاوراته، منها تلك التي أودعها في كتابه (جورجياس) الذي كان أحد شيوخهم، وكان يُقرِّر في دروسه أنَّ الحقيقة لا تكفي وحدها لتكون مِحوراً للخطابة، بل إنَّ الفصاحة وقوة اللسان هي التي تَجعل الخطيب قادراً على الاستمالة التي تَجذب الجماهير إليه، وكلُّ فكرةٍ خُلُقية تَختفي أو يَجب أن تَختفي في سبيل النجاح الذي يتوخَّاه الخطيب.
ويتصدَّى (أفلاطون) في تلك المحاورة لِمهاجمة هذه الأفكار، فيُقرِّر أنَّ الخطابة لا تستطيع أن تنهض بتكوين المواطن الصالِح، وليست الخطابةُ كافيةً في إدارة سياسة الدولة، والسياسي الذي يعتمد على الخطابة وحدها سياسيٌّ مَحكومٌ عليه بالإخفاق.
ويرى (أفلاطون) أنَّ الخطابة الصحيحة ليست هي مُحاولة التغرير بالناس أو القضاة، بل هي طريق الوصول إلى المعرفة، أو تشخيص هذه المعرفة، والخطابة السيئة تكون إمَّا صادرةً عن امرئٍ يقول ما لا يعرف، فيفضي به الجهل إلى تكرار عبارات قد تكون مصقولة، غير أنَّها فارغة! وإمَّا أن تصدر عن امرئٍ يعرف ما لا يقول، أي يعرف الحقَّ ويتجاهله، فيمارس على سامعيه نوعاً من مقدرته على رياضة الكلام، وفي هاتين الحالتين لا تساعد البلاغة على الوصول إلى المعرفة، بل تكون وسيلةً للتضليل!
ولا بُدَّ من توافر مبدأين كي تؤدِّي الخطابة -في نظر (أفلاطون)- إلى الحقيقة؛ أولُّها: أن يدرك المرء الجنس، ويَجمع خصائصه المتفرِّقة تَحت فكرةٍ واحدة، وذلك يكون بتحديد الأمر الخاص الذي يريد شرحه، وثانيها: أن يُقسِّم المرء الأشياء إلى أنواعها، بِحيث تظلُّ الأشياءُ متجانسةً مندرجةً تَحت جنسها، لا يُحاول أن يفصل أيَّ جزءٍ منها.
وكان (أفلاطون) يرى أنَّ إصلاح شأن الخطابة لا يتم إلا إذا اهتمَّ الخطيب بِموضوع الخطبة وعالَجه مُعالَجةً دقيقة، وألَمَّ بأصول علم الكلام، وكان ماهراً في الإلقاء خبيراً بنفسيَّة السامعين، وفي ذلك يقول: «كما أنَّ الطبيب يهتمُّ بطبيعة الجسم، كذلك يَجب على الخطيب أن يهتمَّ بطبيعة النفس، فيعرف حالاتِها المختلفة، وانفعالاتِها المتغيرة، والطرق العديدة للتأثير عليها، والأوقات التي تستجيب فيها النفسُ للتفكير».
أمَّا الخطبة القضائية فقد كان (أفلاطون) يرى أنَّ مهمة خطيبها هي أن يُكفِّر عن الذنب الذي ارتُكب ضدَّ العدالة، أي أنَّ مُهِمَّة الخطابة عنده خُلُقية قبل كلِّ شيء، وأخيراً فإذا كانت الخطابة تعتمد على المعارضة وقوة اللدد واللسن فإنَّها تعتمد أيضاً -أو ينبغي أن تعتمد- على قوة النفس، وهذه ينبغي ألا تتجه إلا إلى السعادة، ولا سبيل إلى هذه السعادة إلا بالفضيلة المطلقة.
وختاماً أشير إلى أهمِّ مصادر هذه المقالة بأجزائها الثلاثة، ولِمَن أراد الاستزادة في موضوعها، فمنها كتاب (الأدب اليوناني) لفرنان روبيرو، وكتاب (في الأدب اليوناني) لكمال بسيوني، وكتاب (في نظرية الأدب) لشكري عزيز الماضي، وكتاب (النقد الأدبي الحديث) لِمحمد غنيمي هلال، وكتاب (النقد الأدبي عند اليونان) لبدوي طبانة، وبالاسم نفسه لِمحمد صقر خفاجة، وغيرها من المؤلفات التي اهتمت بالنقد اليوناني.
Omar1401@gmail.com