قليل من الناس من يتمعن في دقائق جسمه، بل في الأجزاء كافة منه، وما تؤدي من أعمال هي منافع للإنسان من حيث لا يدري؛ لذا فإن كل فرد ممن منحه الله عقلاً وإدراكاً مدعو ليتبصر في نفسه، وما وهبه الله من خصائص في جسمه؛ لأن هذا من العبادة الداعية لقيادة الفرد للتفكر، الذي يربطه بخالقه ليشكره ويزداد إيماناً.
يقول عز وجل: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّه الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَة مِّن لِّقَاء رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّه بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ} (سورة فصلت 53 - 54).
إنّ أقرب شيء للإنسان جسده، فهو يحس بما يطرأ عليه، ويتألم مما يؤذيه، ويغفل ويسهو عما يدور في داخله من تفاعلات وأعمال عجيبة وغريبة، لكنه يتحرك عنده الإحساس عندما تبرز آية من الآيات أو عبرة من العبر في جسمه؛ لتبدأ عنده التفاعلات الرابطة بالعمل لذلك التفاعل، وتمكين الثقافة الصحية مع المختصين، لمعرفة آثار ذلك الطارئ، والمسببات الموجبة له، وتلمس التأثير العلاجي، إلى غير ذلك من أمور يحب المرء أن يعرفها في جسده.
لكن العامل الإيماني الذي يربط السبب بالمسبب، والخلق بالخالق سبحانه، يغفل عنه كثير من أمم الأرض المادية، أو ذات البضاعة المزجاة في الحصيلة العقدية، التي تستمد من كتاب الله جل وعلا، ومن سنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم؛ ليعرف الإنسان موقعه في الحياة، وسر وجوده على ظهر هذه الأرض.
والتركيب العجيب لأجسام الكائنات الحية وأجسام البشر خاصة من الأمور التي تاهت فيه عقول علماء الطب و”البيولوجيا والكيمياء”، ولا تزال في كل يوم تتفتح لهم نوافذ على خفايا هذا الجسم، الذي أودع الله فيه أسراراً دقيقة وكثيرة.
فقد وقع نظري على رسم غريب للجسم البشري، تخيل فيه مصمموه “الكيماويون” أن الجسم البشري بأعماله المختلفة التي تمر بكل واحد منا، وهو لا يحس بها، مدينة صناعية بمعاملها وأجهزتها، فتخيلوا لكل عضو ما يتناسب مع عمله من الأجهزة العلمية، التي نتعجب منها ومن عملها مع ضخامتها، وكثرة معداتها وأجهزتها، وكثرة تكاليفها، وعدد من يعمل فيها من القوى البشرية، وفق تخصصاتهم، وغير ذلك مع دقة في العمل، بالنسبة للأجهزة وسرعة إيجابيته وإمداداته في الجسم، وتطابق العمل مع الانتظام في داخل الجسم ببعضها، ورسموا ذلك الرسم البشري لهيكل الجسم بـ”الكيمياء البشرية”، ويسميها علماء العرب وقت نهضتهم “السيمياء”.
وهذا الزعم الغريب من الكيميائيين في تخيلهم للجسم البشري وأعماله المنتظمة يمثل العرض “لفسيولوجيا وكيمياء الجسم” في مقاربة المحسوس بما هو معهود في حياتهم اليومية كالمعامل التي رأوا بعضها في عملها وما تنتجه، أو سمعوا عن أعمالها الآلية الدقيقة، وفي هذا مخاطبة للناس بما هو معهود لديهم، كما روي عن علي بن أبي طالب بقوله: “خاطبوا الناس بما يعرفون حتى لا يكذب الله ورسوله”؛ لأن هذا ادعى للقبول، وأسرع في دخول الأذهان؛ لأن العلم يدعو للإيمان، وعظمة المصنوع تدل على قدرة الصانع وعظمة الخالص سبحانه؛ لأنه - جل وعلا - هو الذي مكن الخلق للعمل، وهيأ لهم أسبابه.
وبعض العلماء الذين مكنهم الله في أبحاثهم ومعاملهم ومختبراتهم المتجددة، مع غفلتهم عما خلقوا له كما قال سبحانه: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاة الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَة هُمْ غَافِلُونَ} (سورة الروم 7)، ونستنتج من هذا الحرص مع الغفلة من غير المسلمين عن المهمة الأساسية التي خلقوا من أجلها، مع أن الله أعطاهم عقولاً وأفئدة، ولله الحكمة البالغة، في السعي الحثيث لما وراء الموجود، واستعجال الحوادث والزمن على اقتراب الوعد الحق، الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاة الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاه مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِه نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (سورة يونس 24).
فعظمة المصنوع تدل على قدرة الصانع، فهو الخالق سبحانه الذي هيأ للبشر أموراً دقيقة وعجيبة هي من الله الذي خلق الخلق، وهيأ الأسباب، ويعبر عن ذلك هذا القول:
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الخالق
يقول المعلق على هذا المجسم الكيماوي، الذي برز في 49 معملاً كيماوياً: كل معمل يمثل مصنعاً ضخماً بأجهزته ومعداته، والفرق بين كيمياء الجسم والمعمل هو أنه في الجسم تحدث الكيمياء في الخلايا الدقيقة وفي الأنسجة، في حين أنه في المعمل تحدث هذه الكيمياء في أنابيب اختبار، أو حتى في قنينات كبيرة.
ولكن إلى جانب ذلك توجد فروق أخرى أكثر تحديداً، ففي المعمل الكيميائي - على سبيل المثال - تحدث كثير من التفاعلات الكيميائية باستعمال درجات الحرارة العالية، والظروف الحمضية أو القلوية الشديدة، أما في الأنسجة من جانب آخر فتحدث كل التفاعلات عند درجة حرارة الجسم، وهي نحو 37 درجة مئوية، أو 4-98 درجة فهرنهيت، وفي درجة قريبة من التعادل.
وهناك فرق آخر بين التفاعلات في الجسم والتفاعلات في المعمل الكيميائي، هو أن كل تفاعل داخل الجسم يحدث على هيئة سلسلة من الخطوات الصغيرة، وكل خطوة تلعب فيها إحدى الخمائر التي ينتجها الجسم، والمسماة الأنزيمات، وأكثر فعلها كعامل مساعد. أما في المعمل الكيماوي فإن العالم الكيميائي عادة ما يحب أن يكمل كل تفاعل في أقل خطوات ممكنة (موسوعة عالم المعرفة 9-1468).
إن هذا التصور لكيمياء البشرية، بما يحمل من مقارنات عن عمل أجزاء الجسم البشري، هو مدخل جديد للدعوة الإسلامية؛ إذ يمكن ولوج قلوب علماء الكيمياء من باب العلم الذي حرصوا عليه، وأفنوا أعمارهم في تتبع دقائقه، ليقرب إلى الكيميائي المسلم قدرة الله في مخلوقاته، وعجائب هذا الجسم وأعماله.
لكن علماء الغرب والشرق قد قاد بعضهم علمهم إلى الإلحاد، والسبب في هذا التناقض الواضح بين متطلبات العلم الحديث وما يقودهم إليه علماء دياناتهم دفعهم لإنكار التقارب بين العلم والعقيدة، واعتبروا العلم مخالفاً لمنهج الدين، وبرزت هذه المقولة في محيطهم “دع ما لله لله، وما لقيصر لقيصر”.
لكن العقيدة الإسلامية تختلف تماماً عن معهودهم، فيسند فيها العلم لله، مع الاعتراف بأنه سبحانه هو العالم بالأسرار كلها {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (85) سورة الإسراء.
وهذا ما يجب أن ينفذ منه المخلصون المسلمون بأن دينهم يوصلهم إلى العلم وطلبه، حتى يبلغوه، ويؤدوا حقه في مثل هذا النص الكريم: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} (9) سورة الزمر، وقوله جل وعلا: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّه مِنْ عِبَادِه الْعُلَمَاء} (28) سورة فاطر.
ولعله يتاح لنا - بإذن الله - مرورٌ آخر بهذا التصور الكيميائي للجسم البشري لإعطاء لمحة عن عمل هذه الـ49 معملاً في أجسامنا، وما تؤديه من دور يجب أن يزيدنا إيماناً بالله، وثباتاً على دينه، حرصاً وعملاً.
ولقد لفت النظر العالم الفرنسي كاريل لدقائق كيميائية في أجسامنا لم ينتبه لها هؤلاء الكيميائيون عندما قال: “هناك تناقض لافت للنظر بين عمر جسمنا والصفة المؤقتة لعناصره، فالإنسان مكون من مادة ملونة، وقابل للتعديل والتفكك في ساعات قليلة، ومع ذلك فإنه يعيش أكثر مما لو كان مصنوعاً من الصلب، إنه لا يعيش طويلاً فحسب، ولكنه يتغلب بلا توقف على المصاعب والأخطار، التي يواجهها في العالم الخارجي، وهو يهيئ لنفسه وسائل الراحة أكثر مما تفعل الحيوانات الأخرى، ويعد نفسه لمواجهة الأحوال المتغيرة لبيئته.. إنه يتشبت بالحياة برغم الانقلابات الطبيعية والاقتصادية والاجتماعية، وترجع قوة احتماله هذه إلى طريقة عجيبة من النشاط تمتاز بها أنسجته وأخلاطه، ومن ثم لأن الجسم يصوغ نفسه طبقاً للحوادث، وبدلاً من أن يبلى فإنه يتغير؛ ذلك لأن أعضاءنا تبتكر دائماً وسائل لمواجهة كل موقف جديد، وهذه الوسائل تميل إلى إمدادنا بأعلى مستوى لقوة الاحتمال. إن العمليات الفسيولوجية، وهي أساس الزمن الداخلي، تميل أبداً في الاتجاه المؤدي إلى بقاء الفرد أطول فترة ممكنة. وهذه العملية العجيبة، وهذه المراقبة الذاتية، تجعل الحياة الإنسانية أمراً مستطاعاً، ويطلق عليها اسم التنسيق أو التكيف، ولهذا التكيف أشكال لا عدد لها، ويمكن نظمها في قسمين رئيسيين: داخلي وخارجي” .
ثم توسع في آرائه هذه التي تخالف نظرة الإسلام نحو الإنسان وعمره، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد بين لأمته عن الأعمار. (يرجع في كلامه هذا الذي ينبني على آراء الملاحدة في كتاب الإنسان ذلك المجهول ص220 - 221)، ولا نسلّم بآرائه هذه.
فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - روى عنه عبدالله بن مسعود حديثاً في خلق الإنسان وعمره، وأنه بتقدير العزيز الحكيم، فقال: “إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم أربعين يوماً علقة، ثم أربعين يوماً مضغة، ثم يرسل إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات، يكتب رزقه وعمله وعمره وشقي أم سعيد” متفق عليه. وجاء بصيغ أخرى، منها أن الملك يأخذه من البطن على كفه، فيرفعها إلى علام الغيوب، ويقول اخلق يا خلاق يا عليم، ما عمره ما رزقه ما عمله ما أجله، فيؤمر ثم يعيدها إلى مستقرها في الرحم.
ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قال: “لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها”، وأخبر بأحاديث عن أمور يجعلها الله من أسباب ليُنسأ للشخص في أجله، منها صلة الرحم وبر الوالدين والصدقة، وغير هذا من أمور جاءت بالنص عن الله وعن رسوله.
فهل استطاع علماء الغرب أن يمدوا في عمر أحد وفق نظرة هذا الفرنسي، الذي كان من الأجدر أن يعترف بأن ما أشار إليه في جسم الإنسان ما كانت لتجيء في أجسام البشر كلهم على وجه الأرض مصادفة؛ ليشعر بذلك، وأنها كلها بتغيير العزيز العليم، عالم الغيب والشهادة الذي خلق فسوى، وأحسن الصنع، وأكمل الخلق، وجعل الإنسان في أحسن تقويم، وأبدع صورته، وفضله على كثير ممن خلق، حتى ألوان البشرة لبني آدم من آيات الله.
mshuwaier@hotmail.com