توفي أبي وأنا ابن الأربع سنوات، وأصبحت يتيماً، ولم يكن لي إخوة! فقلت: حينما أتزوج سأنجب قبيلة من الأبناء تعوضني مأساة اليتم، لكي لا يتذوقوا ما ذقت من مرارة اليتم والوحدة دون إخوة! وضعتني أمي تحت شجيرة في الصحراء ولفتني بطرف عباءتها ثم سارت تغني في ركب القبيلة الظاعنة نحو حدود الغيم!
هكذا يتحدث الشاعر الراحل، والزميل في هذه الصحيفة، سليمان الفليح، هكذا رحل نحو حدود الغيم، تاركاً الأسئلة التي لا تنتهي، والسيرة التي تكشف عن بدوي مترحل، منذ ولادته، وحتى رحيله، فمَنْ ولِد في منطقة الحماد شمال السعودية، أبى إلا أن تظهر شاعريته في الكويت، ومن نبغ شعراً في الكويت أبى إلا أن يعود إلى السعودية صحفياً وشاعراً، ومن نقل بداوته الأصيلة إلى أحد أحياء الرياض، أبى إلا أن يكون رحيله في الشمال حيث ولادته، فكانت لحظته الأخيرة في الأردن، هكذا آمن بحياة البدو الرحّل، وبتقاليد صعاليك العرب، ولم يرتكن إلى الأرض، فقد كان يؤمن بالإنسان، وهكذا مضت حياته متنقلاً متسائلاً!
من يعرف سليمان الفليح، يشعر أنه محظوظ بأن لحق به العمر كي يشاهد آخر البدو النبلاء، الذين حافظوا على مبادئهم وشهامتهم، فلم يستغل ظرفاً أو موقفاً كي يربح منه على حساب مبادئه، بل كان يشعر بالانتماء إلى كل مكان ترك فيه أثراً، وإلى كل إنسان قضى معه أياماً أو حتى ساعات، فهو نمط الشاعر الحقيقي الذي جاء من مفازات الصدق والنبل والكرم، لأنه جاء من الصحراء، وتعلم الكلمات الأولى من والده الشاعر فليّح بن لافي، ولم يتعلمها من الكتب والشعارات المجانية!
هذا الشاعر النبيل الذي ذاق مرارة اليتم مبكراً، والذي لم يكن له إخوة، رزقه الله كما أراد أو حلُم، بأبناء سبعة يجمع بينهم حرف السين، وكأنما هو اللغز الذي تركه لنا، لماذا هذه السين المكررة في أسمائهم؟ سامي، بسام، باسم، أسامة، سعد، مساعد، وسعود... هي إذن شفرة يدركها هو، وقد خلّف هؤلاء الرائعين، الذين جاء أكثرهم إلى حقل الشعر والإعلام بشغف ووعي، كيف لا، وهم الذين أخذوا الإبداع والشهامة عن هذا البدوي المقاتل!
هذا الشاعر الإنسان، الذي خاض جندياً صغيراً حرب الاستنزاف ضمن الجيش الكويتي، عام 1972 على الجبهة المصرية - السورية، لم يترك حياة صاخبة فحسب، بل ترك ستة أعمال شعرية، وتُرجمت قصائده إلى ثلاث لغات، وتتبع أعماله الدارسون، ولديه سيرة شعرية جميلة، قرأت مقتطفات منها، أتمنى أن تُنشر قريباً في كتاب يكون في متناول القراء.
رحمَ الله الطائر المتنقّل سليمان الفليّح، وأسكنه فسيح جناته.