سـعادة رئيس تحرير صحيفـة الجزيرة سلَّمه الله
السـلام عليكم ورحمة الله وبركاته
فقد اطلعت على مقال سلمان بن محمد العُمري عن «ظاهرة التسوّل الأضرار والعلاج» في صحيفة الجزيرة الصادرة في يوم الجمعة العدد 14904 وتطرّق فيه إلى ظاهرة جد خطيرة انتشرت في مجتمعنا وضربت أطنابها في جنباته فضاق بها ذرعاً أفراده، ونظراً لأهمية الموضوع وخطورته ورغبة مني في الحديث عن هذه الظاهرة، وتبيين حكمها الشرعي، وتوضيح عقوبة فاعلها، وسبل علاجها والنجاة منها، أقول وبالله التوفيق:
إن الله خلق الإنسان في هذه الدنيا وكرّمه أحسن تكريم، وقوّمه أحسن تقويم، ولقد جاءت الشريعة المطهرة من لدن حكيم عليم، عالم بأسرار الكون، وما يصلح النفس البشرية، وما ينفعها في معاشها وفي معادها، وهو الذي وعد بقوله جلَّ وعلا: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (سورة الطلاق 2-3).
لقد ظهر في مجتمعنا فئة من الناس، تسأل الناس إلحافاً، اتخذت ذلك حرفة ووسيلة لجمع المال، إنهم يوجدون في الأسواق العامة، وفي المولات الكبيرة، وعند أبواب المساجد والجوامع، وفي جوانب الطرقات، وعند إشارات المرور، يستخدمون أساليب متنوّعة، في استعطاف الناس من ارتداء الملابس البالية، أو حمل الأطفال الرضّع، وإظهار ما بهم من أوجاع أو عاهات، ليستعطفوا قلوب الناس، والغريب أن هؤلاء كثير منهم يتمتعون بصحة جيدة، ولا أدل على ذلك من وقوفهم في شدة الحر عند إشارات المرور خاصة.
أما الفئة الأخرى من المتسوّلين في مجتمعنا فهم عمال النظافة المتسوّلون القادمون الجدد انتشروا في شوارعنا وطرقاتنا وعند إشارات المرور وفي مواقف السيارات حتى أصبح التسوّل عندهم أهم من النظافة وقد اطلعت على تحقيق صحفي جميل جداً ناقش فيه المتحدثون تسوّل عمال النظافة.
أخي المواطن الكريم إن التسوّل الذي شاع في مجتمعنا شيوعاً كبيراً، حتى أصبح حرفة تُعلّم، وكلاماً يلقّن وعملاً منظماً، وفناً يتخصص فيه، حتى لا يستطيع الواحد أن يفرّق بين الصادق في مسألته، الصادق في فقره وحاجته، وبين الكاذب فيها والمحتال، ولا أن يميّز بين المستحق والمستكثر، وبعض المتسوّلين اليوم يستكثرون لما وجدوه من ربح وفير ودخل سريع، كما صرح به غير واحدٍ منهم، والمستكثر من سأل الناس لا لأنه لا يجد قوت يومه، ولكن ليكثر ماله، يجب علينا عدم التساهل والتسامح معهم، بل يجب على كل فرد في المجتمع إبلاغ الجهات المعنية بهم، للتأكد من هويتهم وجنسياتهم ومقاصدهم ومحاسبتهم، حيث تبين لبعض الجهات الرسمية أن بعضهم يلعب بتلك الأموال القمار، والبعض يتاجر بها في المخدرات، والبعض الآخر يستخدمها فيما يُسمى بالإرهاب، يجمعها ليقتل بها أبناء المجتمع وأفراده، أو يرسلها لأعدائنا ليتقووا بها على قتل إخواننا المسلمين المستضعفين وتدمير ممتلكاتهم، وقد يظهر أنه محتاج وأنه مسكين، ولو أعطيت أحدهم طعاماً أو شراباً ما قبله، ولو أخذه منك مجاملة سرعان ما يتخلص منه حال انصرافك.
أما حكم التسوّل فقد حرّم العلماء التسوّل وسؤال الناس بغير ضرورة أو حاجة مهمة، ثم قالوا: إن الأصل فيه التحريم، لأنه لا ينفك عن ثلاثة أمور محرّمة: الأمر الأول: إظهار الشكوى من الله تعالى، إذ السؤال إظهار للفقر، وذكر لقصور نعمة الله تعالى، وهو عين الشكوى.
الأمر الثاني: أن فيه إذلال السائل نفسه لغير الله تعالى. والأمر الثالث: أنه لا ينفك عن إيذاء المسؤول غالباً. وقال ابن القيم - رحمه الله-: «إن المسألة في الأصل حرام، وإنما أبيحت للحاجة والضرورة، لأنه ظلم في حق الربوبية، وظلم في حث المسؤول، وظلم في حق السائل». إن الإلحاح على السؤال ينافي حال الرضا ووصفه، ولقد أثنى الله عزَّ وجلَّ على الذين لا يسألون الناس إلحافا فقال جلَّ وعلا: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} (سورة البقرة 273)، قال ابن عباس رضي الله عنهما: «من كان عنده غداء لا يسأل عشاء، وإذا كان عنده عشاء لا يسأل غداء»، والآية الكريمة من سورة البقرة اقتضت ترك السؤال مطلقاً، لأنهم وصفوا بالتعفف والمعرفة بسيماهم دون الإفصاح بالمسألة، لأنهم لو أفصحوا بالسؤال لم يحسبهم الجاهل أغنياء.
ويكفي أن التسوّل يورث الذل والهوان في الدنيا والآخرة، وأن هذا العمل عمل دنيء تمجه الأذواق السليمة، وأن فيه دلالة على دناءة النفس وحقارتها، والنصوص الدالة على ذم التسوّل كثيرة، فقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم»، وفي مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس المسكين بهذا الطواف الذي يطوف على الناس، فترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان»، قالوا فما المسكين يا رسول الله؟ قال: «الذي لا يجد غِنى يغنيه، ولا يُفطن له فيتصدّق عليه، ولا يسأل الناس شيئاً»، وفي البخاري عن الزبير عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لأن يأخذ أحدكم حبله، فيأتي بحزمة من الحطب على ظهره، فيبيعها فيكف الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس، أعطوه أو منعوه»، وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن أنزلها بالله أوشك الله بالغنى، إما يموت عاجل أو غنى عاجل»، رواه أبو داود، ورواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
إن البطالة من أخطر المشكلات الاجتماعية وأسوأها عاقبة، وأشدها تأثيراً على طمأنينة الحياة وهناءة العيش، لأنها تولّد التسوّل والسرقة، والغش والخداع، ومشكلة البطالة ليست فيمن لم يجد عملاً يعمله، لأنه يحدث للإنسان أن لا يجد عملاً في مدة أو في فترة معينة، ولكن المشكلة فيمن يرضى بالبطالة، ويرفض العمل، ويتكبر على كل عمل حلال عرض عليه.
إن العمل مهما كان حقيراً فهو خير من البطالة والتسوّل، فلا يليق بالرجل القادر أن يرضى لنفسه أن يكون حملاً على كاهل المجتمع، ثقيلاً مرذولاً، وأن يقعد فارغاً من غير شغل، أو أن يشتغل بما لا يعنيه، فهذا سيورثه سفاهة في الرأي، وسذاجة في العقل، ولقد قال لقمان الحكيم لابنه: «يا بُني استغن بالكسب الحلال، فإنه ما افتقر أحد إلا أصابته إحدى ثلاث خصال: رقة في دينه، أو ضعف في عقله، أو وهاء في مروءته، وأعظم من هذا، استخفاف الناس به»، والمؤمن نزيه القلب، شريف الخلق، عزيز النفس، فلا يرضى أن يكون عالة على الناس، بطالاً أو متسوّلاً.
وليس بنقص أو عيب أن تعمل عملاً يعده الناس عملاً حقيراً، المهم أن تكف وجهك، وليس بنقص أو عيبٍ أن تكون حداداً أو نجاراً، فداود عليه السلام نبي من أنبياء الله تعالى كان حداداً، وزكرياً عليه السلام نبي من أنبياء الله تعالى كان نجاراً، وليس بعارٍ ولا عيبٍ أن تميط الأذى عن الطريق وتكون كناساً ولكن العار كل العار، والعيب كل العيب، في معصية الله جلّ وعلا، والخمول والكسل والبطالة والتسوّل، حيث يعيش الإنسان على فتات غيره، حيث يعيش الرجل على لقمة غيره، مع أنه صحيح البدن قوي الجسد، فهذا من محق البركة في الأجساد، وهذا عبدالله بن المبارك، الإمام العالم الجليل القدوة المحدث الفقيه، أمير المؤمنين في الحديث، جمعت فيه خصال الخير كلها، فمع إمامته وجلالته كان يحمل البضائع على ظهره، ولما رآه بعض الناس قالوا له: يا إمام، مثلك يفعل هذا! قال: نعم، إنما نعمل هذا لنصون هذا، وأشار إلى وجهه.
فالواجب على الجهات المسؤولة ذات العلاقة في مملكتنا الغالية الحبيبة العمل الجاد كل فيما يخصه لمكافحة ظاهرة التسوّل بشتى طرقها وأساليبها وبحث سبل علاجها.
1 - وزارة الثقافة والإعلام تكافح هذه الظاهرة من خلال منابرها الإعلامية المسموعة والمقروءة لكشف خطورتها على المجتمع، وتعرية أصحابها ومقاصدهم وخططهم
2 - وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد تكافح هذه الظاهرة من خلال منابرها الدعوية، حيث يقوم أئمة المساجد وخطباء الجوامع بالأخذ على يد المتسوّلين ومنعهم من السؤال داخل المساجد بعد الانتهاء من الصلوات المكتوبات أو الوقوف عند أبواب المساجد عند خروج الناس منها، وتوجيههم وتبيين حكم عملهم وخطره، وعقوبتهم في الدنيا والآخرة. أما الدعاة إلى الله تعالى فواجبهم تكثيف كلماتهم الدعوية ودروسهم ومحاضراتهم وندواتهم التوعوية، بتوعية المجتمع وأفراده من خطر التسوّل وأضراره وتبيين سبل علاجه.
3 - وزارة الشؤون الاجتماعية تكافح ظاهرة التسوّل من خلال مكاتب مكافحة المتسوّلين التابعة لها وذلك بالعمل على زيادة مكاتبها وزيادة أعداد الموظفين العاملين فيها في جميع مناطق المملكة لتقوم هذه المكاتب بمتابعة المتسوّلين في داخل الأحياء وفي الطرقات ورصد تحركاتهم والتمركز في أماكن وجودهم والأخذ على أيديهم ومنعهم من هذا العمل المشين غير الحضاري وتوجيههم ومن لم يمتثل منهم تتم إحالته للجهات الأمنية المختصة ليأخذ جزاءه جراء عمله ومعاقبته.
4 - وزارة الداخلية تكافح ظاهرة التسوّل من خلال مراكز شرطها ورجال أمنها المنتشرين، حيث تقوم بتوجيههم بالقبض على كل متسوّل وإنزال العقوبة المستحقة عليه لمخالفته أنظمة البلد بتسفيره إن كان غير سعودي إلى بلده لتكف المجتمع من شره وضرره والضرب بيد من حديد كل من أراد العبث بأمن واستقرار المجتمع وأفراده.
5 - وزارة التعليم العالي ممثلة بجامعاتها المميزة المؤهلة تكافح التسوّل بإعدادها البحوث العلمية والدراسات الموثّقة، للتقليل من هذه الظاهرة والحد من انتشارها، وبحث السبل المناسبة لمنعها، واقتراح العلاج المناسب لمداواة أصحابها.
والمؤمل من جميع شرائح المجتمع الوقوف يداً واحدة لصد انتشار هذه الظاهرة المشينة لأنها وجه غير حضاري، تبعث اليأس والإحباط في نفوس أفراد المجتمع وبناته. والله الهادي إلى سواء السبيل.
عبدالرحمن بن عبدالله السعيد- مدير مركز الدعوة والإرشاد في منطقة الرياض