موضوع هذا المقال محاولة لمقارنة وضع بوضع وتقديم المثل على ما تستطيع فعله القيادة الاقتحامية الصادقة. في أواخر القرن السابع عشر الميلادي، أي قبل ثلاث مئة عام تقريباً، وهي فترة قصيرة بمفهوم الحضارات المتجددة، كان المجتمع الألماني أفقر المجتمعات الأوروبية وأشدها جهلا ً وأكثرها تعلقا بالخرافات والغيبيات. طبقات الأمراء والسياسيين وملاك الإقطاعيات الألمان كانوا يفضلون التواصل فيما بينهم باللغة الفرنسية أو الإيطالية ويستقدمون لتعليم أبنائهم مدرسين أجانب. كانوا يخجلون من التحدث بالألمانية ويرونها قاصرة عن استيعاب العلوم والفنون ومصطلحات القانون والإتكيت والتحضر السائدة في بعض الدول المجاورة.
في تلك الأزمنة المضطربة كان المجتمع الألماني خارجاً لتوه من حرب مذهبية أهلية طاحنة بين السلفيين الكاثوليك والصحويين البروتستانت (اللوثريين). تلك الحرب سموها حرب الثلاثين لأنها استمرت ثلاثين عاما ً ودمرت جميع البنى الإنتاجية في المجتمع الألماني وفتكت بالعلاقات التعايشية بين الناس. أفراد الأسرة الواحدة كانوا يقتل بعضهم بعضا ً استجابة ً لفتاوى الرهبان من إحدى الكنيستين، الكاثوليكية أو البروتستانتية.
استمرت الأمور على سوئها، جوع وخوف وفقر وأوبئة فتاكة، حتى وصل إلى الحكم في مقاطعة تسمى بروسيا حاكم له نظرة وطموحات مختلفة عن سابقيه، اسمه الملك فرانز فريدريك الأب. عندما أمعن الملك النظر وجد أن سوء الأوضاع الشامل هو نفسه سواء في المقاطعات والبلدات الخاضعة للسيطرة الصحوية البروتستانتية أو في تلك الخاضعة للكاثوليكية الأصولية. وجد الحاكم أن الفرق الواضح الوحيد كان فقط في محتوى الخطب والمواعظ ومفردات التحريض، أما في الواقع المعيشي فلا فرق، والجميع يتقاسمون نفس البؤس.
كمدخل إلى معالجة التأزم المذهبي الاجتماعي والقحط المعيشي والفكري بدأ الملك أولا ً بتجريم التلاسن المذهبي المتبادل في قطاعات الجيش والشرطة ومدارس التعليم الابتدائي، مبقيا ً المجال فقط لاستذكار ما يسمونه منابع المسيحية الأولى.
هذا القرار الرسمي البسيط المطبق بمراقبة دقيقة دون استعمال العنف أو الإكراه إلا في حالات العصيان، أعاد قابلية التعايش وتبادل المصالح والنظر إلى الحياة بتفاؤل وانفتاح. ببساطة طرد ذلك القرار التبغيض والتكفير المتبادل من التعامل اليومي ومن مناهج المدارس الأولية، مفسحا ً المجال للتفرغ للعمل والكسب والبناء والتعليم الإنتاجي، ثم بدأت الأمور تستقر والعقول تتفتح وتبدع والأنوار تشع في كل الحقول.
حكم بعد وفاة الملك المجدد ابنه فريدريك، الذي سماه الألمان لعلو مكانته في تاريخهم «فريدريك العظيم». توسع الملك الجديد وزاد ونوع في المسالك التي بدأها والده، فأسس أربع جامعات رئيسية يتركز فيها التعليم على الرياضيات والفيزياء والفلسفة والفنون وعلوم المعادن والتصنيع التطبيقية، وكان لعلوم اللاهوت جامعاتها المتخصصة الكثيرة والمتواجدة من قبل والتي استمرت على ما هي عليه، لكنها تأثرت بالعلوم العقلانية الجديدة.
خلال عقد من الزمن أصبح للجامعات الجديدة الأربع فروع في كل المقاطعات الألمانية، يشرف على مناهجها والتدريس فيها المتخرجون من الجامعات الأربع الأولى. ما أن انتصف القرن الثامن عشر حتى أصبح العلماء والفلاسفة والأطباء والموسيقيون الألمان هم طلائع النهضة العلمية الأوروبية بكاملها، واحتلت المنهجية الفكرية الألمانية في الدراسات والأبحاث مكان الصدارة ولا تزال. يؤثر عن الزعيم البريطاني تشيرتشل قوله بعد الحرب العالمية الثانية: انتصرنا في الحرب على الألمان لأن علماءنا الألمان كانوا أفضل من علمائهم الألمان.
مسألة الخروج من دائرة الإرتهان للتخلف والتبعية العلمية والتقنية والإستهلاكية تحتاج إلى ما هو أكثر من الحرص على توافق كل العقليات الاجتماعية وغض النظر عن محاولات التعطيل وتبديع العقل المجدد لأسباب انتفاعية خاصة مغلفة بغلالات دينية بالية.
النماذج التاريخية الناجحة موجودة والفاشلة كذلك، والإسراع في حسن الأختيار يصنع الفرق.
الرياض