ازدادت مجريات الأحداث في منطقتنا العربية وما زالت تزداد تَعقيداً، واشتبكت أسلاك المواقف تجاهها بحيث أصبح عسيراً فَهْم ما يجري. ذلك أن تناقض المواقف بات واضحاً يُعمِّق عُسْر فَهْم جريانها.
وقضايا أُمَّتنا الراهنة والمُلحَّة مُتعدِّدة..
..وبين هذه القضايا قضية فلسطين، التي كانت؛ رسمياً، قضية هذه الأُمَّة الأولى، والتي بدأ بيعها وإن بصورة سِرِّية قبل قيام دولة الصهاينة على أرض فلسطين عام 1948م. ثم راح ينتشر سرطان بيعها شيئاً فشيئاً؛ وبخاصة بعد اتِّفاقية كامب ديفيد وخروج مصر من ميدان المواجهة مع الكيان الصهيوني. ثم وصل انتشار السرطان إلى مرحلة يصعب معها العلاج بعد اتِّفاقية أوسلو بين الصهاينة والسلطة الفلسطينية؛ وهي الاتِّفاقية التي من بنودها أن يكون الطرف الفلسطيني عوناً للصهاينة على حفظ أَمْنهم ضد أيَّ تَحرُّك مقاومة فلسطينية. ولقد كتبت عن هذا الشأن في عدة مقالات ضَمَّها كتابي الذي عنوانه بيع الأوطان بالمزاد العلني، الصادر عام 2012م. وكان مما عَبَّرت به عن موقفي تجاه ما كان جارياً أبيات ضمن قصيدة بعنوان “صدى العيد”؛ وهي:
غَدَتْ فلسطين أَشلاءً مُمزَّقةً
وحَلَّ في أَهلها فَتكٌ وتَشريدُ
والقُدْس غَيَّر مُحتلٌ هُويَّتَها
وانتابها من يَدِ الأَوباشِ تَهويدُ
والسَّادرون من الحُكَّام دَيدنُهم
في كُلِّ نَازلةٍ شَجْبٌ وتَنديدُ
هاموا وَراءَ سَرابِ السِّلمِ زَادُهُمُ
من عَمِّهم سَامْ تَوجيهٌ وتَعميدُ
وطَاعةُ السيِّد الجَبَّار وَاجبةٌ
لها بِشرعِ سُكارى الذُّلِ تَأكيدُ
ومُقتضَى الطَّاعة العَمْياء مَظهرُها
من الأَذلاَّء تَسبيحٌ وتَحميدُ
بَاعوا المَوَاطنَ كي تَبقى مناصبُهم
يُحيطها من رِضا الأَسيادِ تَأييدُ
وسوف يأتي الحديث عن هذه القضية وبيعها ضمن ما بيع من أوطان أُمَّتنا في مقالة أخرى بعون الله.
ومن قضايا أُمَّتنا الآنيَّة، التي أصبحت على المحك بعد قيام الهبَّات في أقطار عربية ضد حكامها، الذين كانوا أمثلة سيئة للحكام، قضية مصر وقضية سورية. أما قضية مصر فقد أصبحت في نظري مستنقعاً أتفادى الوقوع فيه والمجازفة بخوضه. على أن مما يلفت النظر:
1 - التعبير الذي عَبَّر به رجال الحكم الجديد في مصر ومناصروهم أو عَبَّر به خصومهم من المصريين بالذات من حيث الأسلوب ومن حيث المضمون. وبإمكان أَيِّ متابع أن يقارن بين التونسيين؛ رجال حكم هناك أو خصوماً لهم، من حيث أسلوب التعبير ومضمون الموقف، وبين المصريين ليرى الفرق الواضح بين التوانسة الذين اتَّسم أسلوب تعبيرهم ومضمون موقفهم أقرب ما يكون إلى التَّعقُّل؛ أو هو التَّعقُّل نفسه، وبين المصريين الذين اتَّصفوا ويا لَخيبة الظن بهم بِتدنِّي مستوى تعبيرهم أسلوباً ومضمون موقف.
2- إن في طليعة المُرحِّبين بالحكم الجديد، الذي تولَّى مقاليد الأمور بمصر، بشار الأسد، الذي أدمن على تقتيل شعبه؛ رجالاً ونساءً، شيوخاً وأطفالاً، وما زال ينتشي بتقتيله بمختلف الوسائل البشعة، كما أدمن على تدمير وطنه؛ عمراناً وبنية أساسية. ولم يكن ترحيب ذلك المدمن على التقتيل والتدمير مبنياً على غير أساس. ذلك أن الحكم الجديد في مصر قد اتَّخذ موقفاً مغايراً، أو مضاداً، لما أجمعت عليه الدول العربية في جامعتهم. وفي مُقدَّمة هذه الدول المملكة العربية السعودية. فالحكم الجديد في مصر صَرَّح مسؤولون فيه مراراً آخراها ما نُشِر في جريدة الحياة يوم الخميس الماضي أنه يُسمِّي ما يرتكب في سورية من جرائم فظيعة مُجرَّد “أزمة”، ويَتمسَّك بحلِّها سلميًّا. وهو بهذا الموقف لا يختلف عن روسيا وإيران اللتين لا يختلف في عداوتهما لأُمَّتنا العربية إلا مكابر متجاهل للحقائق. بل إنه استنكر ما اتَّخذته دول الجامعة العربية وفي طليعتها المملكة من إيقافٍ لمشاركة حكومة الأسد في الجامعة وقَرَّر بقاء سفارة مصر في دمشق كما لو أن الأسد لم يستمر في إدمان التقتيل والتدمير بصور فظيعة متنوعة البشاعة. بل إني لا أستبعد أن يقف الحكم الجديد في مصر مع الدول التي تعارض قيام أَيِّ قوة بمعاقبة النظام السوري على جرائمه البشعة.
3- إن ممن أصبحت لهم مكانة مُميزة في ظِلِّ الحكم الجديد في مصر هو السيد كمال الهلباوي الذي وصفه الحكم الجديد بأنه “المفكر الإسلامي”، وجعله وحده مُمثِّلاً لجميع أطياف التوجه الإسلامي في مصر. وكان موظفاً عاديًّا في مكتب التربية التابع لدول مجلس التعاون الخليجية. ثم ذهب إلى لندن ولست أدري سبب ذلك، وأصبح يظهر في وسائل الإعلام؛ وبخاصة المرئية، بصورة مُكثَّفة. وكان من مواقفه أن ترأس عدداً من المحسوبين على علماء الشريعة وأنصارها، وذهب إلى إيران حيث اجتمع بمرشد الثورة هناك، علي خامنئي. وتَحدَّث؛ وهو جالس إلى جانب المرشد، فَتهجَّم على من سمَّاهم المُتحجِّرين؛ مشيراً بذلك إلى علماء الدين في المملكة العربية السعودية. ومن المعلوم أن هؤلاء العلماء يسيرون على النهج الإصلاحي الذي تَبنَّاه آل سعود، وناصروه فانتصروا بمناصرتهم إيَاه. وأشاد بثورة الخميني؛ قائلاً: إن الإسلام لن يفوز إلا بها وبأمثالها.
على أني قبل اختتام هذه المقالة أَودُّ أن أشير إلى ما حدث مساء الخميس الماضي في بريطانيا مُتَّصلاً بالموقف تجاه الوضع في سورية. ذلك أنه يُبيِّن الفرق بين دول حقيقية جديرة بأن تُسمَّى دولاً. ودول هي - في الواقع - ليست دولاً. لم يستطع رئيس حكومة بريطانيا أن يقدم على ما أراد تجاه الحكم المجرم في سورية؛ بل خضع لرأي البرلمان، واضطر إلى أن يعلن عدم مشاركة بلاده في عمل حربي ضد الحكم السوري.
أقول هذا مع إدراكي أن تَغيُّر الموقف البريطاني يصب في مصلحة النظام السوري المجرم مع الأسف الشديد. وأقوله مع كرهي لقادة بريطانيا لكونهم؛ تاريخيًّا، مسؤولين مسؤولية مباشرة عن تمهيد الطريق أمام الصهاينة لتثبيت أقدامهم في فلسطين، ولكونهم واصلوا عداوتهم لأُمَّتنا؛ في اشتراكهم بالعدوان الثلاثي على مصر عام 1956م، واشتراكهم باحتلال العراق؛ خدمة للصهاينة بالدرجة الأولى عام 2003م.
أما في الدول التي ليست دولاً بالمعنى الصحيح فرأس النظام فيها يقول ويفعل كما يشاء دون مناقشة أو استشارة لأحد. وأوضح ما تَمثَّل ذلك في ليبيا تحت حكم القذافي، الذي ظَلَّ يحكم بلاده وكأنها ملك خاص به مُستبداً أكثر من أربعين عاماً.
أما الحديث عن قضية سورية فسوف يكون عنها في الأسبوع القادم إن شاء الله.