كان مما كتبته عن الوضع في سورية مقالة نشرتها في هذه الصحيفة بتاريخ 3-8-1432هـ. ومما ورد في تلك المقالة:
“الوضع في سورية وضع مُستحكم العُقَد؛ داخليّاً وخارجيّاً.
فعلى المستوى الداخلي هناك تَفرُّد في الحكم على أساس حزبي ينظر إليه بعض الشعب على أنه لم يعد حزبيّاً فحسب؛ بل أصبح، طائفيّاً. وعلى المستوى الخارجي هناك اهتمام لا مناص منه لدى إيران، التي أصبح لها النفوذ الواضح في تسيير دفَّة الأمور في العراق المجاورة لسورية، ولدى أمريكا، التي يَهمُّها - بالدرجة الأولى- ما يَهمُّ الكيان الصهيوني المجاور لسورية والمحتل لجزء من أراضيها. وكُلٌّ من قادة أمريكا المتصهينين وهذا الكيان الصهيوني يَهمهما أن يبقى الوضع في المنطقة على ما هو عليه؛ وبخاصة أن تهويد فلسطين يسير على قدمٍ وساق”.
وبعد تلك المقالة بشهر وعشرة أيام كتبت مقالة عنوانها “وَيلي عليها ووَيلي من مصيبتها” تَحدَّثت فيها عن حُبي لبلاد الشام وحضارتها، وعن شِدَّة ألمي وأنا أرى البطش الأعمى يُرتكَب فوق ربوع سورية دون مراعاة لحق الإنسان وكرامته، وأُشاهد التدمير جنونيّاً لا يُوفِّر في غيِّه حتى بيوت الله.
وفي شهر صفر من عام 1433هـ كتبت مقالة بعنوان “ أدجلة الخير أبكي أم صبا بَردَى؟”. وتناولت ما حدث ويحدث في العراق وسورية. وكان ختامها:
“ماذا أرى على ثرى سورية منذ أكثر من عشرة شهور؟ لقد صمد الشعب السوري أمام المستعمر الفرنسي، وكان رزؤه على أيدي جلاوزة تلك المستعمر. لكن رزأه الآن على أيدي من هم من أهله؟ وهو رزء يعجز كاتب هذه السطور عن التعبير عن فداحته، فيجد نفسه قائلاً كما قال الشاعر أحمد شوقي من قبله:
ومَعذرةُ اليراعةِ و القوافي
جلال الرُّزء عن وَصفٍ يَدِقُّ “
على أن ظلم ذوي القُربى أشدُّ مضاضة على النفس وأفظع إيلاماً لها.
ولقد أثبت مرور الأيام أن المُهمَّ لدى حكام سورية أن يبقوا مُتحكِّمين. وهذا ما تناولته في مقالة نُشِرت بتاريخ 16-10-1433هـ. ومما ورد فيها:
“كان الرئيس بشار الأسد، و رجال نظامه، يدركون استحكام عُقد الوضع في بلادهم. وهذا ما دفع بعضهم إلى القول: إن الوضع لديهم مختلف عن الأوضاع في الأقطار التي قامت فيها هَبَّات أطاحت بزعماء تلك الأقطار. وبدوا - وهم يقولون ما قالوا - أوضح ما يكونون غطرسة واعتداداً بالنفس؛ بل إن منهم من بلغت به الغطرسة إلى حَدِّ أن قال: لقد مسحنا اسم أوروبا من الخريطة. وشَرُّ البَليَّة أن من قال ذلك القول المتغطرس الأحمق يعلم - قبل غيره - أن زعامته لم تُحرِّك ساكناً تجاه ما قام به الكيان الصهيوني من هجوم على مختبر من مختبراته وتدميره.
وإذا قورن ذلك الموقف الذي جَبُن عن الرَّد على ذلك العدوان بما يرتكبه النظام السوري من بطش بالمنادين بالحُرِّية والعدالة من شعبه أمكن أن يقال:
أَسَدٌ عَـليَّ وفي الحدود نَعامةٌ
في الرَّملِ تُخفي رأسها المُتذلِّلا
ومن الواضح أن النظام السوري قد بنى أساس ظهوره بمظهر المتغطرس المُعتدِّ بنفسه على أمور:
الأول: أن الطائفة التي تنتمي إليها زعامته أصبح لدى كثير من أفرادها - مع الأسف الشديد - اقتناع بأن مصير طائفتهم مرتبط بمصير النظام. ومن ثَمَّ فإنه واثق من وقوف الطائفة معه دون حدود.
الثاني: أن النظام الإيراني - بكل إمكانيَّاته؛ سياسيّاً وعسكريّاً وماليّاً - واقف بكُلِّ جِدِّية مع النظام السوري، وأن وقوف النظام الإيراني مع النظام السوري يعني وقوف الزعامة في العراق، الذي سَلَّمه المُحتلُّ الأمريكي على طبق من ذهب للنظام الإيراني، فأصبح يأتمر بأمره. وكاتب هذه السطور لا يستطيع أن يخفي إدراكه لدهاء زعماء إيران ومقدرتهم على الإمساك بكثير من خيوط الأوضاع في المنطقة.
الثالث: اعتقاد النظام السوري - وهو اعتقاد في مَحلِّه - أن أمريكا زعيمة القوى الغربية غير راغبة في اتِّخاذ موقف جاد قد يُؤدِّي إلى زواله.
الرابع: أن النظام السوري مُطمئن إلى قِلَّة حيلة وحول من يتعاطف مع الهَبَّة في سورية من زعماء العرب، واعتقاده أن كُلَّ ما يملكه أولئك هو أن يَمدُّوا أيديهم - كالعادة - إلى مجلس الأمن؛ وهو مجلس ضمن النظام السوري أن اثنين من أعضائه الدائمين؛ روسيا والصين، سيقفان ضد أَيِّ قرار ضده. وهذا ما أثبتته الأيام حتى الآن.
وكنت قد كتبت مقالة نُشِرت بتاريخ 10-7-14343هـ بعنوان: “طأطأة الرؤوس أمام تَحدِّي إيران والروس”. وكانت تلك الطأطأة قبل اتِّضاح استخدام النظام السوري للكيماوي.
وماذا عن موقف غير السوريين تجاه ما جرى ويجري في سورية؟
من الجهات التي لا بُدَّ للمتابع أن يَتأمَّل موقفها جامعة الدول العربية.
وموقف الأمين العام لهذه الجامعة - في خِضمِّ هذه الظروف - عجيب غريب. وقد كتبت عنه مقالة نُشِرت بتاريخ 21-3-1433هـ بعنوان: “ هل يرعى الأمين العام الأمانة؟ “.
ومما ورد في تلك المقالة:
“ لقد مضى عهد السيد عمرو موسى في الأمانة العامة للجامعة بإيجابيَّاته وسلبيَّاته. وبعد مُضي عهده جاء عهد نبيل العربي. وأبرز ما واجهت هذا الأمين الجديد كارثة سورية الحَالَّة في شعبها المنكوب. ومن المؤلم أنه من بداية تعامله مع تلك الكارثة ظهر أنه ينطبق عليه المثل النجدي القائل في لهجة شمال نجد: “الليلة الظلما تبيِّن من عشاه”. فبعد أشهر من استمرار ارتكاب النظام السوري المجازر البشعة ذهب إلى دمشق ليعود منها وفي جعبته مُجرَّد قول: إن الرئيس السوري وعد بإصلاحات. ثم تَقرَّر إرسال مراقبين من الدول العربية لرؤية الأوضاع وإبداء وجهة نظرهم فيها. وتَمثّل موقف الأمين في أمرين كُلٌّ منهما بعيد عن العدل والإنصاف. الأول أنه اختار لرئاسة المراقبين رجلاً يعلم الكثيرون أن سيرته في دارفور أَقلُّ ما يمكن أن يقال عن سوئها إنها لا تُؤهِّله لحمل المسؤولية المسندة إليه. ولقد فضح أحد المراقبين من الجزائر سوء موقفه بكل تَجرُّد في كتاب طُبِع مؤخراً. والثاني أنه قال: إن مَهَّمة المراقبين ليست معنية بما جرى في سورية قبل وصولهم إليها؛ متجاهلاً - بذلك - المجازر المرتكبة أشهراً ضد من كانوا مسالمين طوال تلك الأشهر. بل إنه قال في منبر الأمم المتحدة:
“لا نطلب التَّدخُّل بالقوة ضد النظام السوري؛ متناسياً تَدخُّل إيران وروسيا بإمداد هذا النظام المجرم بالأسلحة الفَتَّاكة وبالمال والفَنيِّين”.
وماذا عن موقف غير السوريين تجاه ما جرى ويجري في سورية؟
سوء موقف الأمين العام للجامعة العربية واضح. ولم يكن مصير مَهمَّة المراقبين من الدول العربية، التي رَتَّبها، وأوضح سوأة في ترتيبها، إلا الفشل. فَعُدِل عن تلك الجامعة إلى الأمم المتحدة. وجُعِل السيد كوفي عنان، الأمين العام السابق للأمم المتحدة، والذي كان له من التقدير ما له حين تَولِّيه الأمانة، مبعوثاً للنظر في القضية السورية. وكان مأمولاً - بعد أن أصبحت الحقائق واضحة كُلَّ الوضوح - أن يكشف مَنْ الجهة المستحقة للتجريم والمعاقبة. لكن من المؤسف أن موقفه لم يكن بعيداً في السوء عن موقف الأمين العام لجامعة الدول العربية؛ تخاذلاً وتجاهلاً للحقائق. وبدا كأنه شاهد زور أو كاتم للشهادة تجاه المجازر المرتكبة والتدمير البشع. ولا أريد تفصيل ما حدث من سوء تعامله في هذه المقالة المختصرة. لكنه واضح الانحياز إلى مرتكبي الجرائم. وكما فشل الأمين العام للجامعة العربية في التعامل مع ما كان يرتكب من جرائم في سورية فإن السيد كوفي عنان فشل، أيضاً، في مهمَّته، وأنهيت مهمَّة ابتعاثه. وبعد الفشلين تولَّى القضية من هو ليس من المتواطئين مع النظام السوري ببعيد، إن لم يكن من أحرصهم على التواطؤ. بل إنه برهن - وما زال يبرهن حتى الآن - على وقوفه صراحة مع مرتكبي الجرائم؛ وذلك بترديده ما ظَلَّوا يُرِّددونه، ويُبرِّرون به ارتكاب جرائمهم الشنيعة. وكان من المقالات التي كتبت عن موقفه مقالة نشرتها الكاتبة رندة تقي الدين في صحيفة الحياة بعنوان “ مَهمَّة الإبراهيمي المستحيلة”. ومما ورد في تلك المقالة : إن الإبراهيمي يُركِّز على نص جنيف. وكان ما اتُّفق عليه هناك بزعامة وزير خارجية روسيا ووزيرة خارجية أمريكا - أو من إملائها - فيه ما فيه من غموض ومجانفة للحق والعدل. وإن من الخطأ القيام بوساطة دبلوماسية مع شخص يُقتِّل شعبه ويقصفه بالطائرات والمُدرَّعات، وإن على الدول الكبرى أن تجبره على التَّنحِّي وتحاكمه، وعلى أمريكا أن تَتَحرَّك وتوقف إعطاء الأسد المزيد من الفرص للقتال.. ودبلوماسية الإبراهيمي لن تجدي نفعاً بكل الأحوال”.
أما كاتب هذه السطور، المكلوم كغيره من أبناء أُمَّتنا، مما يرتكب من جرائم شنيعة على الأرض السورية فإنه لم يرتح إلى وساطة الإبراهيمي من بدايتها. بل إنه كان يرى فيها تواطؤاً من أعداء أُمَّتنا لإتاحة مزيد من الوقت لاستمرار ارتكاب تلك الجرائم بحق الشعب السوري وتدمير سورية ما شاء لها أولئك الأعداء أن تُدمَّر. ولقد اتَّضح أن عدم الارتياح إلى تلك الوساطة لم يكن غير صواب. فقد تَجلَّى موقف صاحبها بما لا غموض فيه؛ وهو أنه موقف مُتَّفق بشكل يكاد يكون تامّاً مع موقف رئيس النظام المرتكب للجرائم وأعوانه من زعماء روسيا وإيران وتابعتها العراق. موقفه موقف ما زال يُردِّده من لا يريدون خيراً لأُمَّتنا؛ وهو أن يُتَّبع ما يريده نظام الأسد المرتكب للجرائم، وإجبار المظلوم المرتكبة ضده تلك الجرائم على الجلوس على مائدة التفاوض مع النظام المرتكب لها. ويبقى الموقف الأَهمُّ؛ وهو موقف الدول ذات الوزن الثقيل في ميزان القوة في العالم. وهذا ما سيأتي الحديث عنه في المقالة القادمة إن شاء الله.