بداية أحمد الله وأشكره أن هيأ لنا ولأجدادنا دولة قامت مع دعوة انتشر خيرها وعمَّ القريب والبعيد، ولا نزال -والحمد لله- نتفيأ ظلال ذلك الاجتماع المبارك بين الإمامين (محمد بن سعود ومحمد بن عبدالوهاب رحمهما الله) الذي عمَّ نفعه وكثر خيره ديناً ودنيا، وولاة الأمر في هذه البلاد المباركة عالمون فضل اجتماع الدولة مع الدعوة وأن الخير في الاجتماع فصاروا يؤكدون في المناسبات أنه لا انفكاك بينهما، خذ مثلاً قول الملك عبدالعزيز رحمه الله: (فمن كان ثابتاً عنده أن الشيخ محمد بن عبدالوهاب - رحمه الله - مجدد لهذا الدين الذي هو توحيد رب العالمين، ومتابعة سيد المرسلين، فهذه كتبه مشهورة، فليعتمد على ذلك، ونحن -إن شاء الله- أعوان له على ما يرضي الله ورسوله، ومن كان عنده شك فليسأل الله الهداية، ويطلب بيان ذلك من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ويسأل من يثق به من العلماء المحققين. إذا فهمتم ذلك فاعلموا - هداكم الله - أننا إن شاء الله - بحول الله وقوته - أنصار لمن دعا إلى ما دعا إليه الشيخ محمد بن عبدالوهاب - رحمه الله - قائمون بما قام به أجدادنا الذين نصروه، ومن خالف ذلك إما بتفريط أو إفراط فلا يلومن إلا نفسه.. والله إني لأؤدب به أدباً يتأدب به الأولون والآخرون، ومن أنذر فقد أعذر، ولا حول ولا قوة إلا بالله). (إتحاف الأمة بخطابات أئمة آل سعود العامة ص149.)
وقال رحمه الله: (فمن أفتى أو تكلم بكلام مخالف لما عليه الشيخ محمد بن عبدالوهاب وأولاده: عبدالله وعبدالرحمن وعبداللطيف وعبدالله بن عبداللطيف فهو متعرض للخطر لأننا نعرف أنه ما يخالفهم إلا إنسان مزاور للشر والفتنة بين المسلمين) (إتحاف الأمة بخطابات أئمة آل سعود العامة ص165 و166).
وقد سار أبناؤه الملوك والأمراء على ذلك تأكيداً وبياناً وافتخاراً وتحدثاً بنعمة الله، ومن أواخر الكلمات وليست آخرها ما جاء في كلام ولي العهد السابق الأمير نايف -رحمه الله- الذي قال في خطاب ألقاه جاء فيه: (معروف بأن هذه الدولة المباركة قامت على المنهج السلفي السوي منذ تأسيسها على يد الإمام محمد بن سعود وتعاهد مع الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمهما الله، ولا تزال إلى يومنا هذا -بفضل الله- وهي تعتز بذلك، وتدرك بأن من يقدح في نهجها أو يثير الشبهات والتهم حولها، فهو رجل جاهل يستوجب بيان الحقيقة له... إننا نؤكد لكم على أن الدولة ستظل- بإذن الله- متبعة للمنهج السلفي القويم، ولن تحيد عنه ولن تتنازل، فهو مصدر عزها وتوفيقها ورفعتها، كما أنه مصدر لرقيها وتقدمها، لكونه يجمع بين الأصالة والمعاصرة، وهو منهج ديني شرعي، كما أنه منهج دنيوي يدعو إلى الأخذ بأسباب الرقي والتقدم..)
هذا هو الواقع للدعوة السلفية التي قام بها الإمام المصلح محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله- وسار عليه العلماء من بعده إلى وقتنا، أما أن يخرج علينا بعض الصحفيين- ممن ليس من أهل الورد والصدر- بكلام لا زمام له ولا خطام، فيصادم بعباراته دعوة الحق ويجعلها عبئاً على الدولة التي ولاة الأمر فيها من قديم الزمان وحديثه يؤكدون أنهم معها بل وينصون على أنهم لن يحيدوا قدر استطاعتهم عن السلفية وأن المنهج السلفي مصدر عز الدولة ورقيها وتقدُّمها، فلا شك أن قائل تلك العبارات الجوفاء وأمثاله في حاجة إلى وقف حازم.
وسبب كتابة هذا المقال وباعثه هو ما كتبه أحد الصحفيين -أصلحهم الله- حين جعل (السلفية على فراش الموت) أو ما عَلِمَ أن السلفية هي دين الإسلام الصافي وأنها باقية ما بقي الإسلام وما بقيت الطائفة المنصورة حتى يأتي أمر الله، وأن السلفية لا تُعارض الرقي والتقدم الدنيوي في شتى المجالات بل تشجع على الأخذ بالأسباب وتحث عليه. وأخشى أن يكون هذا الكلام من الإرجاف الذي هو سبيل لأهل الأهواء.
ومن الطعن العجيب الذي أتى به الصحفي قوله (لم تَعُد دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب اليوم إلا عبئاً على الدولة السعودية، بعد أن كانت مصدراً من مصادر قوّتها وعزّها. فالدعوة قد تخلّفت تخلُّفاً شديداً عن جميع مظاهر التطوُّر الإنساني الهائل الذي حدث في العقود الماضية، بينما واكبت الدولة السعودية الحضارة الحديثة. هذا التناقض بين الروح والجسد أطال من عمر الدولة السعودية، فلم تنته سريعاً كدولة الطالبان الأفغانية التي طبّقت الدعوة النجدية روحاً وجسداً. ولكن إطالة عمر الدولة القائم على تناقض الجسد والروح، قد خلق مشكلات داخلية عويصة في فكر وتركيبة المجتمع الإداري والاقتصادي والسياسي لا تُحل إلاّ بالتخلّي عن الروح، وهي الدعوة النجدية. والتخلّي عن الدعوة النجدية هي مطالب كثير من السعوديين السلفيين فضلاً عن غيرهم، ولكن أنى لجسد أن يعيش طويلاً بعد تخلّيه روحه)!
رحم الله ابن هبيرة، فحين سئل عن حد الجهل؟ قال: لا حد له!
لا أدري إلى أي حد بلغ سقوط الكاتب، والكاتب لا يدري ولا يدري أنه لا يدري.
فقوله: (الدعوة تخلفت تخلفاً شديداً..) يدل على عدم فهم لحقيقة الدعوة، فهل يمكن أن توصف العقيدة السلفية بأنها متخلفة؟! وهل من شرط العقيدة السلفية كونها متطورة؟! وهل هناك تضاد بين الدعوة إلى التوحيد ولزوم السنة وما كان عليه السلف الصالح وبين التطور والرقي؟! لا والله ليس هناك تضاد إلا في أذهان الجهلة وأهل الأهواء الذين يضيقون ذرعاً من انتشار دعوة الحق.
والأمير نايف -رحمه الله- الرجل الثاني في الدولة في زمانه حين كان ولياً للعهد قد أجاب الكاتب وأمثاله في هذه المسألة على وجه الخصوص كما مضى نقل كلامه، ثم هل يجوز تركُ ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام وما كان عليه أصحابه والتابعون لهم بإحسان إلى زماننا من عقيدة سلفية مجاراة لأهل الشرق أو الغرب أو ما سمع الكاتب بقول الله: وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُم ، أما سمع بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك) .
ثم مثل تلك المقالات تهدم ولا تبني، وتفرق ولا تجمع، وتمرض وتجرح مخالفة للعلماء وطعن فيهم، ومخالفة لولاة الأمر في عدم التعرض للعلماء الكبار من اللجنة الدائمة، كما أن في ذلك المقال تفكيكاً للمجتمع، وتشكيكاً في علمائه، وإسعاداً لأعدائه، نسأل الله أن يجعلنا مفاتيح للخير.
ثم ما ذكره الصحفي في مقاله إنما هي دعاوى لم يقم عليها برهان واحد، بل لقد انحرف قلمه انحرافاً بيناً ظاهراً في أمور كثيرة منها:
1- وصفه للدعوة بأنها متخلفة!! وهذا كذب له قرنان، وحبسك من شر سماعه، ثم ما وجه التخلف الذي يقصده؟! وما معياره في الحكم به؟ وهل المحافظة على المنهج السلفي عقيدة وفقهاً ومنهجاً يعدُّ تخلفاً؟!
لكن كما قيل:
ما يبلغ الأعداء من جاهل
ما يبلغ الجاهل من نفسه
2- جعله لدولة طالبان المطبقة للدعوة النجدية!! روحاً وجسداً!! وهذا جهل بواقع طالبان فكثير منهم- هداهم الله- على غير عقيدة سلفية بل تبرُّك بالتمائم واعتقادات خاطئة في أصول الدين وفروعه! إلا إذا كان الكاتب يرى أن تلك هي العقيدة السلفية التي وصفها بالتخلف؟!
3- قوله: (إن التخلي عن الدعوة النجدية هي مطلب كثير من السعوديين السلفيين فضلاً عن غيرهم)، أبرز إن كنت صادقاً عشرة أسماء من السلفيين (لا الحركيين الحزبيين المنتمين لبعض الجماعات) ممن يطالب بالتخلي عن الدعوة السلفية.
وليعلم الجميع أن السلفية هي الإسلام القائم على القرآن والسنة بفهم السلف الصالح وهي دعوة الحق، فمن خالف السلفية فعلى قدر مخالفته يكون بعده عن المنهج الصحيح الذي جاء به إمام السلفيين وسيدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن أراد إقصاء السلفية فقد رام إقصاء الإسلام، ومن زعم أن السلفية تتنافر من متطلبات الحياة فقد وصم الإسلام بذلك، قال الإمام ابن تيمية -رحمه الله: (لا عيب على من أظهر مذهب السلف، وانتسب إليه، واعتزى إليه بل يجب قبول ذلك منه بالاتفاق، فإن مذهب السلف لا يكون إلا حقاً)، وقال: (ليس في العقل الصريح، ولا في شيء من النقل الصحيح ما يوجب مخالفة الطريق السلفية أصلاً ... ثم المخالفون للكتاب والسنة وسلف الأمة... في أمر مريج).
قال الأمير سلمان حفظه الله: (أدعو الكتاب والباحثين إلى عدم الانسياق وراء من ينادي بالوقوع في فخ مصطلح «الوهابية» وأنه مجرد مصطلح، بينما يتناسى هؤلاء الهدف الحقيقي من وراء نشر هذا المصطلح للإساءة إلى دعوة سلفية صحيحة ونقية، ليس فيها مضامين تختلف عما جاء في القرآن الكريم وما أمر به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، خصوصاً أن هذا التشويه جاء من جهات متعددة لا يروق لها ما تقوم به تلك الدعوة الصافية من جهة، وما أدت إليه من قيام دولة إسلامية تقوم على الدين أولاً، وتحفظ حقوق الناس وتخدم الحرمين الشريفين وهي الدولة السعودية، التي مكنها الله في هذه البلاد لتخدم المسلمين جميعاً، وتحافظ على هذا الدين، لأنها قامت على أساسه ولا تزال).
وختاماً أدعو جميع المسلمين أن يلقوا السمع لما قرره سماحة شيخنا عبدالعزيز بن باز رحمه الله وأن ينظروا في قوله: (من أبرز هؤلاء الدعاة المصلحين الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب مجدد القرن الثاني عشر الهجري رحمه الله الذي وفقه الله للقيام بدعوة إصلاحية عظيمة أعادت للإسلام في الجزيرة العربية قوته وصفاءه ونفوذه وطهر الله به الجزيرة من الشرك والبدع، وهداهم به إلى الصراط المستقيم. وامتدت آثار هذه الدعوة المباركة إلى أجزاء كثيرة من العالم الإسلامي وتأثر بها عدد من العلماء والمصلحين فيه، وكان من أقوى أسباب نجاح هذه الدعوة أن هيأ الله لها حكاماً آمنوا بها ونصروها وآزروا دعاتها، ذلكم هم الحكام من آل سعود بدءاً من الإمام المجاهد محمد بن سعود -رحمه الله- مؤسس الدولة السعودية ثم أبناؤه وأحفاده من بعده.
إن دعوة الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- هي الدعوة الإسلامية التي دعا إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام وسلف هذه الأمة الصالح، ولهذا نجحت وحققت أثاراً عظيمة رغم كثرة أعدائها ومعارضيها في العالم الإسلامي أثناء قيامها، وذلك مصداقاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله».
وهذه الدعوة وإن كانت سلسلة دعوة الإصلاح ومرتبطة بمذهب السلف الصالح، السابق لها; ولم تخرج عنه إلا أنها تستحق المزيد من الدراسة والعناية وتبصير الناس بها; لأن الكثير من الناس لا يزال جاهلاً حقيقتها، ولأنها أثمرت ثمرات عظيمة لم تحصل على يد مصلح قبله بعد القرون المفضلة، وذلك لما ترتب عليها من قيام مجتمع يحكمه الإسلام، ووجود دولة تؤمن بهذه الدعوة وتطبق أحكامها تطبيقاً صافياً نقياً في جميع أحوال الناس في العقائد والأحكام والعادات والحدود والاقتصاد وغير ذلك مما جعل بعض المؤرخين لهذه الدعوة يقول: إن التاريخ الإسلامي بعد عهد الرسالة والراشدين لم يشهد التزاماً تاماً بأحكام الإسلام كما شهدته الجزيرة العربية في ظل الدولة السعودية التي أيدت هذه الدعوة ودافعت عنها.
ولا تزال هذه البلاد -والحمد لله- تنعم بثمرات هذه الدعوة أمناً واستقراراً ورغداً في العيش وبعداً عن البدع والخرافات التي أضرت بكثير من البلاد الإسلامية حيث انتشرت فيها.
والمملكة العربية السعودية حكاماً وعلماء يهمهم أمر المسلمين في العالم كله، ويحرصون على نشر الإسلام في ربوع الدنيا لتنعم بما تنعم به هذه البلاد.
ومن هنا فإن الدولة السعودية منذ قيامها وحتى الآن تتيح الفرص والمناسبات لبيان حقيقة هذه الدعوة التي تعتمد على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتحرص على إزالة الشبهات التي تثار من الجاهلين بهذه الدعوة أو المغرضين.
أصلح الله حال المسلمين ورد ضالهم إلى الحق وثبتنا جميعاً عليه.
د. محمد بن فهد بن عبد العزيز الفريح - عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية