غني عن القول إن دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب - رحمه الله - هي التي قامت عليها شرعية هذه البلاد، وبها وانطلاقاً منها تجذرت وترسخت، حتى أُسقطت في طورها الأول على يد جيوش قدمت لغزوها من الخارج، لكنها عادت في طورها الثاني وقامت، والتفَّ الناس حولها من جديد، ثم، وبسبب خلاف بين أئمتها، عادت وتشظت فضعفت ثم سقطت، حتى أتى المؤسس الملك عبدالعزيز - رحمه الله - وأعاد إحياءها من جديد، على نفس الشرعية، والثوابت العقدية التي تأسست عليها عند قيامها، وكانت هذه (الشرعية) حاضرة وبوضوح في ذهن الملك عبدالعزيز. ومن يعود إلى تاريخه، ومقولاته، يجد أنه كان يعمل، ويسوس، ويجاهد، وينطلق، ويتعامل مع دعوة الشيخ محمد على أنها هي أس الوحدة، ومرتكز الشرعية السياسية وشرط البقاء للدولة، فقد كان لا يساوم عليها، ولا على مبادئها وبالذات ما يتعلق بمسائل التوحيد. ولم يعرف التاريخ - حسب قراءاتي - أن دولة قامت ثم سقطت، ثم قامت ثانية ثم سقطت، ثم قامت ثالثة واستمرت وازدهرت مثل الدولة السعودية. ولولا أن هذه الشرعية (أسٌ) ثابت وراسخ ومتجذر، ناهيك عمّا تحظى به من قبول لدى من يعيش في هذا الحيز الجغرافي الذي نشأت فيه، لما كانت (صالحة) لتعيد بعث الدولة من جديد في كل حقبة من حقب تاريخها، ولاندثرت مثلما اندثر غيرها من الدول التي عرفها التاريخ.
وكثير من الأجانب، وللأسف بعض السعوديين أيضاً، لم يفهم حقيقة هذه الدعوة في جوهرها فهماً عميقاً، ولم يُدرك الأسس التي قامت عليها، فيتعاملون معها على اعتبار أنها (مذهب فقهي) في حين أنها دعوة تجديد في تنقية علاقة الإنسان بربه، تقوم وتتمأسس على إخلاص الله بالعبادة وحده دون سواه، والابتعاد عن الشرك بكل صوره، وكل ما قد يمس نقاء (التوحيد)، ويُعكر صفاء علاقة الإنسان بربه. وهذه (ثوابت) لا تتغير ولا تتبدل بتغير الزمان والمكان والنوازل، لأنها ببساطة الأساس الذي قام عليه دين الإسلام كما نزل على محمد عليه الصلاة والسلام، فإذا سقطت سقط الدين برمته؛ فالتجديد في مسائل العقيدة تعني أن (تعود) في كل مرة إلى النبع الصافي الذي قامت عليه دعوة محمد بن عبدالله عليه أفضل الصلاة والسلام عندما انطلقت، وقبل أن تشوبها شوائب المبتدعين، فتتماهى مع الأصل بلا زيادة ولا نقصان، مُتكئاً على ما صح به الدليل لا تحيد عنه قيد أنملة. أما في مسائل الفقه والمعاملات وعلاقة الإنسان بالحياة وبغيره ممن هم في محيطه أو من هم خارج محيطه، فقد كان الشيخ وأتباعه من بعده (حنبليي المذهب)، وإن اجتهدوا في بعض المسائل، فمحور اجتهاداتهم يقوم ويتكئ على ما صح به الدليل، وهم هنا يبقون كما كان سلفهم ضمن الإطار الشمولي للمذهب الحنبلي؛ ولو عُدت إلى الأقوال الفقهية الاجتهادية داخل المذهب الحنبلي، كما في (المغني لابن قدامة) - مثلاً - لوجدت أن كل مسألة فيها قولان أو أكثر، يكون اختلافات الفقهاء فيها تدور حول المسائل الاجتهادية التي لم يرد فيها نصٌ قطعي الثبوت والدلالة يَفصِلُ في قبول أمرٍ أو رد آخر، وبالتالي إما أنها تتطلب قياساً على دليل، أو ترجيح دليل ظني على دليل آخر ظني، أو أن تصور من يقول بهذا القول في (النازلة) محل البحث يشوبه بعض القصور فجاء حكمه فيها في النتيجة مختلفاً عن القول الآخر، وهكذا.
وغالباً ما يكون التشدد والتسامح في المسائل الفقهية متعلقاً بالشخص نفسه؛ فأحيانا تجد فقيهاً غاية في التشدد، بل وربما يراه كثيرون مُتعسفاً في لي أعناق الأدلة، وأغلبها ظنية، لتواكب تشدده، ثم يتعامل مع أدلته وكأنها يقينية في أحكامه؛ وفي المقابل تجد آخر مُتسامحاً في المسائل الفقهية الاجتهادية، وموضوعياً، يتلمس ما تكون فيه المصلحة للبلاد والعباد، وكلاهما في القضايا التي تمس نقاء (التوحيد) في منتهى الشدة والصرامة. وهذا وذاك محسوبان عند التقييم والتصنيف على مدرسة الشيخ محمد بن عبدالوهاب.
مما تقدم يمكننا القول إن دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب هي (ثابتة) وكذلك (متغيرة) في الوقت نفسه.
ثباتها يتمحور في مسائل التوحيد، وإخلاص العبادة لله وحده، والابتعاد عن الشرك بكل شدة وصرامة لا تقبل التنازل أو التساهل أو التسامح أو المساومة. وهي (متغيرة) ومواكبة ومتجددة ومتسامحة، بل ومتطورة أيضاً، في ما دون قضايا التوحيد، شريطة أن تكون القضايا محل الاختلاف يجوز الاجتهاد فيها وليست مما ورد فيها نصٌ قطعي الثبوت وقطعي الدلالة، وتُعالج قضية تتعلق بمصلحة راجحة، أو دفع ضرر محتمل. ولعل أقرب مثال معاصر لما أقول تعامل علماء الدعوة الأعلام (الموضوعي) مع استقدام القوات الأجنبية أبان غزو صدام للكويت، في حين أن كل من اعترض على هذا الاستقدام وتحفظ أو تكلس أو تشدد كان محسوباً على جماعة الإخوان المتأسلمين أو يرقاتهم من السروريين، وهؤلاء علاقتهم بدعوة الشيخ أوهى من بيت العنكبوت وأن تشبثوا زوراً وتضليلاً بانتمائهم إليها. بقي أن أقول إن تشدد البعض وتكلسهم في المسائل الفقهية الاجتهادية، وفرضهم فيها رأياً واحداً، قد يكون متعنتاً، ثم يُصرون عليه ولا يقبلون بغيره، قد يضر بمصالح الناس، ويُربك التنمية، يُسألون هم عنه كأفراد وليس دعوة الشيخ رحمه الله.
إلى اللقاء.