وفيما نحن نحتفل بعرسنا الوطني تخليداً لذكرى توحيد المملكة وتأسيسها، من المناسب المرور العابر على محطات عالمية لتشكل اليوم الوطني.. فرغم أن له موعدا محددا بأغلب الدول يمثل ذكرى أهم يوم من أيام تكونها، فإنه يتنوع بين البلدان حسب ثقافتها وظروفها..
الإقرار الرسمي لليوم الوطني كيوم ثابت بالسنة وعطلة مدفوعة الأجر بدأ في التشكل شيئاً فشيئا منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، على الرغم من أنه ظهر قبلها كحالة عامة. لذا يصعب تحديد أول من بدأ تنفيذ اليوم الوطني، فالفكرة بدأت بالظهور تدريجياً بين بلد وآخر ثم رسمياً في فرنسا وأمريكا.. ولم تُعرف الأيام الوطنية بهذا الاسم في كثير من البلدان، فلا يزال يُسمى بأسماء مختلفة كيوم: الاستقلال، العَلَم، الثورة، التوحيد، التأسيس، أو حتى يوم ميلاد القائد الفلاني؛ لكنه ضمنياً يعتبر اليوم الوطني.
اليوم الوطني يرمز عادة إلى ذكرى يوم الاستقلال أو التوحيد أو تحول نظام الحكم. اليوم الوطني في فرنسا وهو 14 يوليو يحتفي بذكرى الثورة الفرنسية (1789م)، وله أسماء عديدة كيوم إعادة الجمهورية، أو يوم الباستيل، وعلى الرغم من أنه ظهر منذ السنوات الأولى بعد الثورة، لكن لم يُتفق عليه بشكل رسمي كعطلة واحتفالات حكومية إلا بعد عقود حتى الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وكذلك الحال بالنسبة لليوم الوطني بالولايات المتحدة الذي يسمى يوم الاستقلال (1776م).
وإذا كانت هاتان الدولتان دشنتا فكرة اليوم الوطني كعطلة رسمية واحتفالات ومهرجانات وألعاب نارية واستعراضات عسكرية، فإنه مع بداية القرن العشرين صار لدى أغلب الدول المتقدمة أيامها الوطنية التي تحتفي بها. ومع منتصف القرن العشرين واستقلال الدول المستعمرة صار لأغلب دول العالم أيامها الوطنية. إنما ثمة دول قليلة ليس لديها يوم وطني بالمعنى السياسي، مثل الدنمرك وبريطانيا وسويسرا وبعض دول الكومنولث!
الآن صار لأغلب الدول يوم محدد وثابت بالسنة لليوم الوطني، لكن ثمة دول لم تثبته بل اختارت أول يوم اثنين بالشهر المحتفى به، ليندمج مع عطلة نهاية الأسبوع، فتصبح ثلاثة أيام متتالية أفضل من يوم منفرد. كذلك فإن الموعد قد يتغير في بعض الدول بتغير الملك أو الأمير كما في تايلاند ولوكسمبورج حيث اليوم الوطني هو يوم ميلاد الملك أو الأمير.
وإذا كان اليوم الوطني هو يوم واحد عند أغلب الدول، فإن بعضها لديه أكثر من يوم وطني مثل مصر أو باكستان التي لديها ثلاثة أيام وطنية.
وتختلف البلدان في أهمية اليوم الوطني وفي زخم احتفالاتها الرسمية.. ففي بلدان يتم بها استعراضات عسكرية وترفع الأعلام الوطنية بالساحات العامة وتصطخب بالكرنفالات والمهرجانات الضخمة كما يحصل في إسبانيا وكثير من دول أمريكا الجنوبية، بينما في بعضها الآخر هناك مجرد إجازة عامة من العمل والدراسة. والطريف في إسبانيا أن يومها الوطني (12 أكتوبر) يحتفل به في دول عديدة من دول أمريكا اللاتينية والجنوبية وهو ذكرى يوم كولومبس (1492) الذي اكتشف أمريكا.. وحتى في الولايات المتحدة الأمريكية يحتفل به!
هذا الاحتفاء باليوم الوطني في دول الأمريكتين ظهر اعتراض عليه باعتباره غالباً للأوربيين “الغزاة”، فماذا عن مشاعر السكان الأصليين الذين سُحقت حضارة أجدادهم؟ هذا السؤال طُرح منذ منتصف القرن العشرين.. ونتيجة لذلك، أعلن في عام 1996 أول احتفال باليوم الوطني للأصليين الكنديين، وأصبح يوماً وطنيا يحتفل به في 21 يونيه بكندا.
ومع ذلك فإن اليوم الوطني في استراليا يبدو فجَّاً حيث يحتفي بذكرى يوم وصول الأسطول الأول للمستوطنين عام 1788م وإعلان السيادة البريطانية.. والغريب أن أشهر أسماء هذا اليوم الوطني هو يوم الغزو!! لذا رافقت هذه الاحتفالات إعلان يوم “حداد” للسكان الأصليين عام 1938م. وحصل عام 1988 احتجاجات من السكان الأصليين باعتباره احتفالاً لخسارة ثقافتهم الأصلية. ورداً على ذلك، صارت الاحتفالات الرسمية تشمل السكان الأصليين بطرق شتى، فيما يطالب البعض بتغيير موعد يوم الغزاة!
وإذا كانت استراليا من الدول التي تحتفي بمناسبة قديمة نسبية فإن بعض الدول تحتفل بمناسبة قريبة مثل ألمانيا بيوم الوحدة عام 1991، وهونج كونج بيوم عودة السيادة للصين عام 1997، بينما لا تزال دول تظهر بيوم جديد مثل مناسبة الاستقلال في تيمور الشرقية عام 2002، وكوسوفو 2008، وجنوب السودان 2011.
أما أقدم المناسبات لليوم الوطني فهو ما اختارته جزر المالديف وهو اليوم الأول من شهر ربيع الأول حسب التقويم الهجري، الذي يوافق ذكرى انتصار السلطان محمد العُزام على البرتغاليين عام 1573م! إنما اليابان بالغت في تقاليدها واختارت يومها الوطني 11 فبراير بمناسبة اعتلاء أول إمبراطور أسطوري جينمو تينو عام 660 قبل الميلاد كذكرى تأسيس الإمبراطورية اليابانية!
لكن ثمة دول اختارت مناسبات مختلفة إنما أساسية لديها.. مثل يوم “إلغاء الرق” في جمهورية جوانيا (شمال شرق البرازيل) ومثلها جزر جوادلوب (ضمن جزر الأنتيل).. فتلك دول عانت من كونها محطات تجميع للرق.. ومثل اختيار يوم أطول نهار بالسنة كيوم وطني في جرينلاند فتلك دولة تعاني غياب الشمس والبرد القارص.. وهنا لم يعد اليوم الوطني مسألة سياسية بحتة، ففي السويد ذات الطقس القاسي برودة أغلب أيام السنة عدَّل البرلمان اليوم الوطني إلى الصيف (6 يونيه) لتشجيع الناس على الاحتفال.
وفي الدول التي ليس لديها يوماً وطنياً “سياسيا” كبريطانيا التي تشكلت كدولة حديثة قبيل الثورة الفرنسية والأمريكية، ولم يحصل بها الظروف السياسية لكي تنحو منحى دولتين تسعيان لترسيخ اللحمة الوطنية، رأت أن الاحتفال باليوم الوطني صار له أهمية اقتصادية وترفيهية، فاختارت يوم ما “وطنياً” في السنة كعطلة عامة ويطلق عليه في بريطانيا “Bank holiday “، على الرغم من أن بدايتها الأولى كانت في عام 1871 لكنها كانت محصورة في إجازة البنوك. هذه الأيام “الوطنية” بتلك البلدان لا تزال غير ذات شأن سياسياً سوى أنها عطلة عامة.
لقد أصبحت بهجة الناس وما يتبعها من نشاط اقتصادي بحد ذاتها مبرراً للاحتفال باليوم الوطني فضلاً عن دوره في دعم الوحدة والترابط بين مواطني البلد.. فاليوم الوطني لم يعد يوم تحد وعنف تجاه الآخر بل يوم بهجة ومحبة للداخل والخارج.
alhebib@yahoo.com