بدأ الشتات أواخر الدولة العثمانية، وكانت قبل ذلك كدولة بني أمية ملكاً مُتوارثاً؛ ولكنَّ فيها معنى (الخلافة)؛ لكونها جمعت شمل العرب والمسلمين ولم تأذن بفواصل الحدود السود على الخريطة، وكانت الفتوى مُوَحَّدة، ولم يُكره العلماءُ على الفتوى أو القضاء بما يُرضي أهواء السلطان، ولم ينفصل الدين عن السياسة والحياة العامة في العلن، وما يحصل من تقصير في السِّر، أو من توسُّع السلطان فيما هو حَقٌّ له؛ وذلك بتنفيذ ما هو خلاف الفتوى أو القضاء بدعوى أن ذلك من فقه السياسة التي يكون الإمام أدرى بها: لا يمسُّ هيمنة الدين على السياسة والحياة العامة إن كان السلطان مخطئاً في اجتهاده، أو كان أسير هوى دفين؛ فهذا من الضَّعف البشري الفردي في مسيرة خِلافة الملك.. والعلماء تجاه هذا التجاوز يأبونه بإصرارٍ موعظةً ومناصحةً سِرِّية وعلنية، ولكنهم لا يشقُّون عصا الطاعة، ولا يُهدرون وحدة الدين والأمة وإن حصل خللٌ جُزئي؛ وذلك بمقتضى المعادلة بين المصالح والمفاسد.. وكان السلطان تترقَّى أحوالُه، ويَرِقُّ قلبه لاتباع الحق المحض على المدى.. والشرع أوصى باتباع مُلْكِ الرحمة، وهذا المُلك بقيد الرحمة مما امتنَّ الله به على بني إسرائيل كما امتنَّ عليهم بالأنبياء على جميعهم وعلى نبينا محمد أفضل الصلاة وأتم السلام.. وأوصى ديننا بالصبر على ما يُظن أنه مُلكٌ عَضُوض وهو في سريرة السلطان ومُعادلته جَبْرية من ضغوط خارجية؛ فيكون مرغماً على أَحْلى الأمرَّين بتشديد الراء.. وأوصى ديننا بالصبر على الملك العَضُوض إن كان العضُّ أَثَرةً، وأوجب عليهم تجاه ذلك الاتحادَ مع سلطانهم في الجهاد والطاعة في المعروف، وحرَّم عليهم الخروج عليه؛ وهذا بمقتضى الأمر الشرعي بالصبر وبمقتضى ضرورة المعادلة.. وأوجب عليهم في الوقت نفسه أن لا يقولوا إلا الحق، وأن يصارحوا سلطانهم بالموعظة والاستدلال خالِين به؛ وإذا سامهم سلطانُهم ما يُـخالِف القطعي من دينهم فإنهم يأبون أن يقولوا أو يفعلوا غير الحق، وأمرهم أن يصبروا وإن عَظُم البلاء عليهم في مالهم أو مناصبهم أو أبشارهم، ويحرم عليهم حُرْمةً مُغلَّظة أن يخلعوا البيعة؛ فهذا بمقتضى واجبين شرعيين: أولهما أحدُ نوعَي الصبر، وهو الصبر على الأذى الذي يصيبهم في أنفسهم، والصبر الأول الذي سلف صَبْرُ الطاعةِ وإن حصل نقص جُزئي يَدْرؤه في المستقبل الإصرارُ على الموعظة وعدمُ المُتابعة في المنكر، والحفاظ على شمل اأمة بعدم الخروج على السلطان بالمعادلة التي تقضي بالصبر على التجاوزات الجزئية؛ لأن ضد ذلك فتنة تدوم.. والتجاوز الجزئي يزول على المدى بصدق الأمة في الصبر، والإصرار على المناصحة، وتحمُّل الأذى، والدعاء في جوف الليل وعلى المنابر بصلاح السلطان وبطانته.. وتوَقِّي (فتنةٍ تدوم) هو الواجب الشرعي الثاني.
قال أبوعبدالرحمن: وهذا الشتات في آخر الدولة العثمانية، وهي آخر مُلْكٍ جمع شملَ المسلمين: حصل بانتشار البدع والخرافات، والسعي الحثيث على تعميمها، وإيثار العِرق وهو عصبية منتنةٌ لو كان هذا العرق في مستوى شرف العرق العربي فما بالك وهو دونه.. وبدأ الشتات بالتعدُّدية الخانقة؛ مما أضعف الدولة عسكرياً، وقد بدأ هذا البلاء من السلطان نفسه؛ إذْ قَبِل أعداء الملة في جوهر حياة أمته ولا سيما اليهود، وأبسط شيئ في الاحتضان امتلاءُ القصر بأطباء يهود يعالجون أمراضه الوهمية، وأشدُّ ما في هذا الاحتضان أن يكون منهم مستشاروه؛ فانتفض السلطان عبدالحميد انتفاضة الأسد الهصور - وهو في فولاذية إرادته كمروان آخر خلفاء بني أمية -، ولكن الشتات الذي أحدثه أسلافه فوق قدرته؛ لأن روح الانفصال عارمة في الشعوب العربية والإسلامية؛ ولأن الخِناق السياسي والعسكري أُحْكِم قبل تولِّيه في الداخل والخارج، وتعانقت الباطنية الصفوية مع الأطماع لأهل الكتاب الذين أُسقطت إمبراطوريَتيهم الكاثوليكية والأرثوذكسية.. وتعانق الفريقان مع الأيديولوجية الصهيونية؛ فلم يبق لعبد الحميد إلا مذكراته التي كتبها بنزيف قلبه، وكشف ما يظنه بعض الأغبياء وهماً من تخطيطٍ بعيد المدى، وكشف الحجاب عن العملاء المتظاهرين بالإسلام كابن صفدر والصيادي، وأيقن بأن سقوط الدولة أمر لا مندوحة عنه.. وعَدِمَ المناصرَ الذي يجد به بصيص أمل؛ فاضطرت دولته إلى التحالف مع الدكتاتور هتلر؛ لمواجهة تلك الأطماع وتلك الأيديولوجية؛ فسقط هتلر، وكان أوَّلُ مَن وقع في الشَّرك العربَ أنفسهم بقبولهم الانفصال عن إخوان الملة والنحلة من المسلمين بعد الحرب العالمية الثانية، وإعلانهم القومية العربية؛ ليحققوا وعْد الحُلفاء باستقلالهم، فلم يحصل لهم إلا الاستعمار المباشر، ثم استعمار الضغوط والتعدية، ولم يحصلوا على أدنى وحدة، وانفصلت السودان عن مصر في وقت مبكر، ولا تزال التجزئة ترسم زيادات متتالية من الحدود السود في كيانهم التاريخي.. هذا هو الموجز لواقع الحال؛ فما هو دور الملك عبدالعزيز في هذا الواقع الأليم وهو في اعتقاد كثير بدوي لا يرتجل مثل خطب سعد زغلول وعبدالناصر والأقطاب بينهما ؟.. الجواب من مناحٍ مُتعدِّدة؛ فالمنحى الأول: أن عبدالعزيز وريث دولة إسلامية بحتة عربية صليبة.. وقد عايش آلام سقوط الدولة السعودية الثانية؛ وقد آتاه الله بسطة في الجسم والعقل؛ فما غادر دولة أسلافإلا بعد نموِّ مداركه وهو ذو عقل لاقط، وذو خبرة دقيقة بأسباب التمزق الذي أسقط ذلك الدور.. والمنحى الثاني أن سحبان وائل لو كان في إهاب عبدالعزيز لوجب عليه بضرورة لا مَفرَّ منها أن يتكلم باللهجة التي يحسنها أبناء أمته وقد عشعشت فيهم وأفرخت الأمية اللغوية.. والمنحى الثالث أن عبدالعزيز في الغربة بالسواحل إلى أن استقر في بلاط مبارك الصباح كان متفتح الذهن على ما يجري في الدبلوماسيات الأممية التي تفد على البلاط؛ فكان أدق زعيم عربي في العلم بالمتغيرات في العالم، والإدراك للواقع المحلي في بلاده التي غادرها وأهلها يظنون أن المتغيرات العالمية هي ما يجري في هذه الجزيرة لا غير كالضفدعة تظن أن الكون كله ما اكتنفته جدران البركة.. والمنحى الرابع: أن طموح عبدالعزيز لم يكن هِمَّةَ طارئٍ على الحلم بمجدٍ تاريخي كان قبله عارياً منه لا يلوب ذلك الحلم بباله.. بل كان عبدالعزيز عالماً بقدَره التاريخي العتيد غير الطارئ، وأن قدَره الحكمة والورع والتضحية مهما كان الثمن؛ ليصل ما انفصل من أمجاد أمته.. والمنحى الخامس: أن مجد الأمة الذي انفصل كان وِحدةً إسلامية عربية في أجزاء كثيرة من الجزيرة بحكم مباشر، وبولاءٍ ومتابَعةٍ في أجزاء أقل، وبخضوع واعتراف بالسيادة في السواحل إلا إمارة القواسم فكانت على الولاء الصادق والاتحاد في النحلة.. وقد غادر أُمَّته وهي مبعثرة بالتجزئة، وبعضها خاضع لحكم واحد، ولكنه حكمٌ عشائري، وليس حكم دولة مدنية تضع الدواوين، وتبرمج مناهج التعليم، وتُنظِّم القضاء والفتوى، وترسم سياسة استثمار الأرض وقُدْرات ومواهب الإنسان.. وهذا الحكم العشائري لم يصل إلى أقصى الجنوب، ولا إلى شيئ من الغرب، فحكوماتهما قائمة مستقلة.. ومَن خضع للحكم العشائري لم يفقد استقلال التجزئة؛ فالقبائل غير منقادة لحكم مباشر، ولكنها خاضعة لأعباء حرب تنتهي بمدِّ وجزر في سيادتها، ثم يعود حكمُ الحرب أُنُفاً.. والمنحى السادس: أن عبدالعزيز جاء والتجزئةُ عملياً في عنفوانها إلى حد أن أمير بعض القرى - ودعك من الإقليم - مُتَدَيِّك على أهل قريته.. وجاء أيضاً وعموم الأمة المُجزَّأة يحن إلى تاريخ الدولة السعودية في دوريها الأول وأول الثاني ولا سيما أكثر أقاليم المنطقة الوسطى، وينتظر المخلِّص من ذلك البيت الكريم؛ بل كانت آمالهم معلقة بالشاب عبدالعزيز الذي غادرهم وقد شهدوا لوذعيَّته؛ فكان هذا أوَّلَ التوفيق؛ لأن الانقياد بدافعالحب هو الأساس الصلب الذي يصمد لعواصف الأحداث.. والمنحى السابع: أن عبدالعزيز جاء من ضعف في العُدَّة والعتاد، ولكن القوة التي يملكها ثقته بربه، ثم ثقته بأن الأمة تريد استعادة تاريخ آبائه؛ لأنها كانت آنذاك في أمن ورفاهية.. وقوة أخرى يملكها، وهي سلامة نيته (وَحُسْن السيرةُ يظهر سلامة السريرة).. ومعنى سلامة النية خلوص النية لهدف شريف، وليس ذلك هدفَ استعادةِ مجدٍ أُسري وإن كان الغبن من الاعتداء على هذا المجد دافع في البداية، ولكن وراء ذلك ما استقرَّت عليه السيرة من إرادة وحدة أمة ورقعة على حاكمية دين الله فيهم، وعلى دعْمِ أمنها واستقرارها ورفاهيتها بمسيرة حضارية يتحقق بالله ثم بها مصالح الدنيا، وتكون تلك المصالح مُوَظَّفةً لما قضى به ونظَّمه دين الله بأحكامه الشرعية.. ولم يأت عبدالعزيز والأمة في فراغ من دين ربها، وإنما أتى والعالِـم المتبحِّر القوي لا يملك الفتوى إلا إن أُسْتُفْتي، والتطوع بالموعظة، ولا يملك إيجاد قضاءٍ ملزِم.. وجاء وأمته في فراغ من تنظيم التعليم والفتوى والقضاء وتنمية الأرض والإنسان.. ولصدق نيَّته لم يمنعه ضعفه من المغامرة، ولم تدفعه جراحه إلى الهزيمة: فإما حياة شريفة، وإمَّا شهادة يبلغ بها العذر عند ربه.. وقد تواتر عند دخيلته دعاؤه على نفسه بأن الله إن علم منه غير ما جاء مِن أجله من الأمور التي ذكرتها أن يخذله، وإن علم أن في تضحيته نصْراً للإسلام والمسلمين أن ينصره؛ ولهذا انتصر في مواقع كثيرة لم يكن فيها جنده أميز فروسيَّةً، ولا أعظم عدة وعتاداً.. وعندما أراد الله للحروب أن تضع أوزارها كاتب أمراء الأقاليم والقرى وشيوخ القبائل: أن الثارات والذحول مُهدرة، وعبَّر عن ذلك بقوله: (قد دَمَّيناها).. أي دَفنَّاها.. وأشفق على نفسه أن يكون في مسيرته الحربية ظُلْمٌ لأحد غير مقصود؛ فأعلن بكل صراحة وبراءة: (أن الحرب عمياء)، ودعا كل صاحب مظلمة أن يتقدَّم إليه، فواجهته الرعية بالدعاء والمسامحة، وأنهم شركاؤه في النصيحة للأهداف التي جاء من أجلها، وقد حصل التجاوز في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فتبرَّأ من اجتهاد الصحابي الجليل خالد بن الوليد الذي لقبه بسيف الله المسلول.. وعنَّف على حِبِّه وابن حِبِّه أسامة وهو يردد: أشققتَ عن قلبه ؟.. وعقد الراية آخر حياته له وهو صغير السن وفي جيشه كبار الصحابة؛ فلما تولى أبو بكر الصديق رضي الله عنهم أبى أن يفل راية عقدها رسول اللهلى الله عليه وسلم.. والمنحى الثامن: أن عبدالعزيز جاء والضغوط تحكمه في الداخل والخارج؛ فخرج من المأزق بالله ثم بقلب تقي، وعقل حصيف، وتجربة عريضة؛ فأما في الداخل فقد جعل نفسه مُنفِّذاً لوصاية العلماء الربانيين، وجعل أعيان الحاضرة والبادية سدنةَ مشورته واستشارته، فوجد عندهم طموحاً فوق قدرتهم، ودون الواقع المشاهد من مسيرة تاريخه المعاصر؛ فأضاف إلى الفقه الشرعي عند العلماء، وإلى الطموح عند الفريقين (الوعيَ السياسيَّ) الذي هو ابن بجدته، فأشرب قلوب الفريقين وعياً شرعياً بما يُقدر عليه وما لا يُقدر عليه، ومواجهة ما لا يُقدر عليه بتحقيق المصلحة الكبرى والتضحية بالصغرى، ودفع المفسدة الكبرى وتحمُّل الصغرى؛ وهذا هو معنى المعادلة.. عارضوه في تعامله مع مندوبي الدول المتنفِّذة ولم يتعوَّدوا دخول الأجنبي، وعارضوه في السكة الحديد، وعارضوه في فتح أبواب التعليم المنهجي وقالوا: (نريد أبناءنا لمزارعنا وحِرْفتنا)، وعارضوه في تطعيم المدارس بأساتذة من العالم العربي يُتِمُّون ما ينقصنا من المعارف المنهجية، وعارضوه في اقتناء مُنتجات العلم الحديث الذي به يعد الله عمارة الأرض وهو داخل فيما أمر الله به من إعداد القوة، وعارضوه في (شَعْرة معاوية) رضي الله عنه حول بلدان أحرجته بمعاهداتِ حمايةٍ أجنبية، وأرادوا منه اقتحام طيران يحْلب الرصاصَ ولا تسقِطُه بندقيةُ أم فتيل والعصملي والمقمع؛ فعالج كل ذلك بالصبر وطول النَّفس، والحوار الهادئ، واختار من ذوي العلم الشرعي وحصافة العقل من يتواصل معه في حوارهم وإقناعهم، وعزم الأمر مع مَن تعثَّر في الاستجابة، وتحمَّل المسؤولية وحده، وأراهم حُسْنَ العقبى في النهاية.. هذا على مستوى الضغوط الداخلية، وأما على مستوى الضغوط الخارجية فقد جاء عبدالعزيز على وعي ودرايةٍ بالمتغيرات العالمية؛ فواجه ذلك بدهاء مَنْطِقُه: (لست بالخَبِّ ولا الخبُّ بخدعني) وهو يواجه ثعالب السياسة وذوي القوة المادية من زعماء العالم المتنفذ؛ فأطرق إطراقة الأسد الخادر عند قيام الحرب العالمية الأولى، فلم ينطق ببنت شفة وهو بين الشفقة على الخلافة العثمانية والوجل من دكتاتورية هتلر الذي صنَّف العرب والمسلمين في الدرجة الدنيا قُبيل درجة اليهود التي هي أدنى درجات الانحطاط؛ لخبرته بكيدهم ولا سيما ما أبداه في كتابه (كفاحي)، وقامت الحرب العالمية الثانية وهو يتفحَّص سحنات قادتها، ويشرف على تراجع الإمبراطوريةالبريطانية وظهور نجم الولايات المتحدة.. ورأى انضواء العالم العربي تحت مِظلَّة الحلفاء، وثِقتهم بما أظهروه لهم من الوعد بدولة عربية موحَّدة؛ فأخذ عبدالعزيز بالله ثم بلوذعيته العصا من وسطها؛ فلم يعكِّر على الطموح العربي، ولكنه دعا إلى جامعة إسلامية؛ فلما استقر له الأمر وتعذَّر إيجاد الجامعة جعل (مِنَى) منطلق التضامن الإسلامي، وأن يكون المنطلق مع الأشقاء العرب من منطلق عربي صميم ومن طواعية للدين الإسلامي الخالص.. حضر اجتماعات (البحيرات المُرَّة) التي يتصدرها زعماء الثعلبية السياسية من أمثال روزفلت وتشرشل؛ فأذهلهم صراحته وصدقه مع نفسه، وتمسُّكه بحقوق أمته بالمنطق الديموقراطي الذي يتحدثون به كالحريات الأربع، ولما تفجَّر البترول في بلاده أبى أن يُصغي لما في خطاب خليفة روزفلت مساومةً على القضية الفلسطينية، وأجابه بخطاب يُعدُّ مفخرة لهذا القائد المحنك مُلوِّحاً إلى اعتياده وأمته خشونة العيش، وأن نعمة البترول المتدفِّقة سلعة غالية تُرحِّب بها كل الأسواق، وأن عداء اليهود والصهيونية لهم كعدائهم المسلمين أو أشدَّ.. والمنحى التاسع: أن الملك عبدالعزيز لما استردَّ المنطقة الوسطى وجعلها نواة الوحدة أظهر للعالم أن هدفه استرداد الوحدة الإقليمية التي كانت لأسلافه، وفي ذهنه أن يضم أقصى ما يقدر عليه من جزيرة العرب، ولكنَّ الذي وراءه ضغطان: أحدهما خارجيٌّ وهو معاهدات الحمايات الاستعمارية، وثانيهما نفسي ينبع من شفافيَّته ووفائه، وهو علاقته بالإمارات الشقيقة، وقد قدَّمت عربون الوفاء له في غربته؛ فلم يملك إلا مساومة الاستعمار البريطاني على ما تحت أيديهم هم وليس تحت يده؛ ليخلُّوا بينه وبين ما ليس هو تحت نفوذهم؛ فضمَّت قيادتُه الكريمة وحدةَ الدين والرقعة والأمة في هذه المملكة التي هي أوسع من تركة أجداده، وكان توَغُّله في الحديدة جولةً خاطفةً لم يُرِدْهَا جولةَ استقرار؛ ليصل إلى توحيد ما بين اليمن والحجاز من جنوب المملكة، وكان الملك فيصل لا يريد العودة على مضض، ويريد مزيداً من التوغُّل، وكتب الملك سعود رسالة إلى أبيه نشرتها الصحف يعتب عليه فيه التفريطَ في هذا المكسب؛ فدعاهم إليه بعزم وحزم، وغرس في روعهم أهدافه، وبصَّرهم بالممكن وغير الممكن رحمهم الله جميعاً.. وأرادت بريطانيا أن تزج به في حرب مع الأردن، وتحمس لذلك بعض قادته؛ فكبح جماحهم، وتعامل مع أخيه الشريف عبدالله بن الحسين تعامل الشرفاء، وليُحاصُّهْ في الحدود بدقة، بل أفاض عليه من الأرض بكرمٍ، وهكذا تعامل مع أشقائه في السواحل، وكوَّن جيشاً جهادياً تجاوز أربعمئة ألف مقاتل كلهم في مستوى المسؤولية.. وهي وحدة لم تحصل في تاريخ جزيرة العرب ألبتة بحكمٍ مباشر، بل كان الخلفاء لا يرجون من جزيرة العرب (ولا سيما المنطقة الوسطى إلى رمل عالج) منفعةً، وإنما يتوقَّون غائلتَهم من أجل حماية طرق التجارة وطرق الحاج؛ لهذا لم يكن ثمة حكم مباشر يفيض النعمة على جزيرة العرب، ويعاملها معاملة الأمصار حضارة وتمدناً، ومن النادر أن يكون الأمير من قبلهم ساكناً في قلب الجزيرة، بل الأكثر بقاؤه في سواد العراق، وفي أواخر الدولة العباسية كانت علاقة الخلفاء بالجزيرة حملاتٍ تأديبيةً لا غير.. وجمع عبدالعزيز فروسية أهل الجزيرة (والواحد منهم يُعادل ألفاً) على نصرة الدين ووحدة الرقعة حتى كان شعار العامَّة (صِبِي التوحيد وانا اُخو من طاع الله).. ولحرص الملك عبدالعزيز على الوفاء بالعهد ولو كان مُراً.. ولإلغائه ثارات ما قبل الوحدة، ولصبره العجيب في تحمُّل الغبن من أجل المصلحة العامة: جذب القلوب إليه عن حبٍّ وطواعية؛ فكانوا جُندَه، وكبار قادته، وأهمَّ مستشاريه.
والمنحى العاشر: أن عبدالعزيز واجه الداخل والخارج بالمصارحة ولو كانت مُرَّة، ولم ينافق بالمزايدة.. ولقد ظهر ذلك في أمرين جليَّين: أولهما: القضية الفلسطينية؛ فقد أدرك ببصيرته وتجربته أن جَلْب العرب بإرادة أجنبية لمحاربة إسرائيل سيكون حاسماً، ولكن هذا الحسم ليس من مصلحة العرب، بل سيحول بينهم وبين تجمُّع آخر؛ لأن زعماء العرب الأوفياء، وجنودهم المتحمِّسين: كلُّهم سيكونون تحت قيادة الذين أصدروا قرار وعد (بلفور) ونفذوه، ويقوم بدورهم عملاء مَنَّاهم الاستعمار وحدة عربية قومية؛ فهم يؤمرون فيأتمرون من غير أن يكون لهم رأي في إدارة الحرب.. ولأن السلاح ليس مما اكتسبوه بالشراء وجربوه، بل سيصرف لهم عند تلاقي الجمعان وهم غير مطمئنين على سلامته، فصارحهم بكلِّ ذلك على علم مُسْبق بما يسمعه من إرجاف المزايدين بالقضية، ودعا إلى دعم الفلسطينيين بالمال والغذاء والسلاح الذي يملكونه ويطمئنون على سلامته؛ ويكون هذا مدخلاً لِـجُهد سياسي يمنع من التدخل الأجنبي في شأنٍ فلسطيني داخلي؛ لأن العرب الألصق بالقضية لم يتدخَّلوا؛ فأبوا ذلك، فتغاضى رحمه الله عن المتطوِّعين من السعوديين الذين فعلوا الأفاعيل، ووقع ما حذر منه الملك عبدالعزيز مما ألجم كلَّ مزايد؛ فجاءت البداية بمثل (ماكو أوامر)، وبارتداد السلاح على صدر المقاتل العربي، ثم بانتصار إسرائيل في حرب 1948م بخلل في القيادة وتآمرٍ ليس عن قوة في العدو؛ فأصبحت إسرائيل دولة معترفاً بها لا يحق للتجمع العربي أن يقترب من حدود 1948م، وعلى المدى، وعلى تنامي انتشار وزرع التعددية حُيِّد العرب عن تجمُّعٍ يُضادُّ ما تخطَّى الحدود المذكورة، بل جاء التدخل الأجنبي تدخلاً سافراً عام 1956م.. والأمر الثاني: موضوع الخلافة الإسلامية؛ فرفضَ أن تكون له عندما دعاه إليها أكثر قادة العالم العربي وبعض العالم الإسلامي، ودعوا الآخرين لمبايعته بالخلافة.. ورفضها لغيره في مقابلته حسن البنا.. رفض عبدالعزيز ذلك لأنه يعلم من أخبار دين ربه أن الخلافة الراشدة ثلاثون عاماً، وما بعد ذلك ملكُ رحمةٍ أو ملكٌ عضوض، وكانت دولة عبدالعزيز، وسلف دولته، وخلفه: يُمثِّلون مُلْك الرحمة؛ وذلك حقيقة ملموسة لا يُـخْفيها أي هذْرٍ إعلامي مُغْرض.. ويعلم من دين ربه أن الساعة لن تقوم إلا بعد خلافة راشدة بقدرِ من الله كوني يَتَّحد فيه الهدف، وتكون الفروسية بأعيان الرجال لا بطيارة بلا طيار؛ فكل ما في أخبار آخالزمان يتحدَّث عن حياة فطرية وجهاد بسيف وخيل.. وعبدالعزيز لن يُذيب دولة تقيم حدود الله، وتحرص على سيرة أهل السنة والجماعة في خِضَمِّ أهواء لا يجمعها هدف واحد، ويعلم ببصيرته أنَّ وِحدة الصف قبل وحدة الهدف، ويعلم أن مقولة البنا (نتَّحد على ما اتفقنا عليه، ويعذر كل واحد منا صاحبه فيما لم نتفق عليه): دعوى محالة واقعاً، وتعليلٌ باطل من جهة الشرع؛ فما فرض الجهاد على أفضل الخلق وعلى خير أمة أُخرجت للناس إلا بعد وجود صَفٍّ على هدف واحد.. ثم إن وحدة الهدف قبل وحدة الصف ستكون على منافع دنيوية مُعَيَّنة، وعلى شعار إسلامي عامٍّ أجوف؛ فإذا اتَّحد الصف على الهدف الجزئي فستكون فتنة دائمة، وحروب أهلية مُبيدة على ما لم يُتَّفق عليه من الأهداف، وسيقول كلُّ فريق: (أنا العنصرُ الفعَّالُ في تحقيق ما اتفقنا عليه)، وسيتَّحِـدُ صفُّ التعدُّدية التي لا تريد أن يحكم الإسلامُ الأمة بدافع الشهوات والشبهات والعمالة، وسيكون جانبهم أقوى بالدعم الخارجي، وسيتناحر المنتسبون إلى القبلة ويخذل بعضهم بعضاً، وسيتَّحد صفُّهم ضد من يريد الإسلام على صفائه كما هو عليه الأمر الأول: من اتباع السنة والجماعة، وإبعاد دخيل الخُرافات والدروشة، وما يجرح العقيدة أو يبطلها من اعتقادات مُـحرَّمة.. وهذا أمر أظهره الواقع بما تعايشونه اليوم بالمشاهدة في سياق الحريق العربي الذي لم ينته بعد.. وحَفِظ عبدالعزيز حقَّ المواطنة للأقلية القليلة من الباطنية المارقة؛ فجعل لهم شؤونهم في الأحوال الشخصية، ومرجعِّيتهم الدينية الضلالية بشرط عدم المساس بحق المواطنة، وأن لا تمتد حريتهم إلى إيذاء حرية الجمهور.. وأختم حديثي بشيئ عن حسن السيرة الذي أظهر سلامة السريرة بما نشرته مجلة الفتح في عددها (347) في تاريخ 7 / 2 / 1352هـ، وهذا نصه: « سأل مراسلُ الجامعة الإسلامية في القاهرة الشيخَ يوسف ياسين مستشارَ الملك عبدالعزيز ابن سعود عن حياة الملك الخصوصية؛ فقال له: لجلالة الملك نظام خاص لا يتغيَّر ولا يتبدَّل تقريباً، وهو يواظب عليه في فصول السنة كلها (في الإقامة والسفر، والصيف والشتاء)؛ فهو يستيقظ قبل أذان الفجر بساعة ونصف تقريباً؛ فيقرأ القرآن، ويتهجد بالصلاة إلى الأذان، ثم يصلي الصبح مع الجماعة، ثم يجلس قليلاً؛ فيقرأ بعض الأدعية نحو نصف ساعة، وبعد ذلك يفطر، ويخرج؛ فيجلس في مجلسه الخاص؛ فيعرض الموظفون المختصون عليه البرقيات الواردة في اليوم الابق؛ فيصدر أمره العالي بالإجابة عنها، ثم تُعرض عليه أسماء الوفودِ الذين يفدون في اليوم نفسه من أنحاء المملكة المختلفة.. كما تُعرض عليه بواسطة الموظفين المختصين الأمور التي تتطلب أمر جلالته، ثم يقابل الذين حدَّد لهم موعداً للمقابلة في ذلك اليوم، ثم يجلس في مجلس خاص: يحضره الموجودون من رجال الأسرة السعودية، ومن آل رشيد (الذين هم في معيَّة جلالته، وكبار رجال حاشيته)، ثم يتغدى مع هؤلاء.. وبعد الانتهاء من ذلك المجلس يجلس في مجلس خاص بين أبنائه الصغار؛ فيأنس بهم - ولجلالته عشرون ابناً، وعشرون بنتاً تقريباً -، وعند ذلك يكون قد حان وقت الظهر؛ فيصلي الظهر مع الجماعة، ثم ينام القيلولة.. وعندما يستيقظ يجلس في مجلس تعرض عليه فيه أوراق الوفود وطالبي الحاجات؛ فيأمر لهم بأعطيات، ثم يصلي العصر، ثم يستقبل الذين حدَّد لهم وقتاً للمقابلة، وتُعرض عليه الشكاوى والأمور المتعلقة بشؤون الرعية.. وبعد ذلك يتعشى، ثم يتنزه خارج البلدة التي يكون فيها، ويعود بعد صلاة المغرب؛ فيجلس بين المغرب والعشاء جلسة خاصة لصلة الرحم، ويحضر مجلسه هذا قريبات جلالته ذوات الرحم والمحارم من نساء الأسرة السعودية؛ فإذا أذَّن العشاء خرج فصلَّـى مع الجماعة، ثم جلس مجلساً عاماً يحضره كبار الوفود وكبار زائري جلالته.. يُقرأ فيه شيئ من تفسير القرآن الكريم ومن الفقه، ويظل في هذا المجلس نحو ساعة، ثم ينصرف إلى مجلس آخر يكون فيه كبار موظفي جلالته؛ فيبحث فيه الشؤون المهمة المتعلقة بأعمال الحكومة وما يعرض لها، وقد يدوم هذا المجلس إلى قبيل نصف الليل بساعة، وبعده ينصرف إلى النوم.. ومجموع نومه في الحالات العادية من خمس إلى ست ساعات)).
قال أبو عبد الرحمن: لقد تدَّفق البترول في آخر حياة الملك عبدالعزيز، وحصل الرخاء، ومات رحمه الله ولم يخلِّف ديناراً ولا درهماً سوى قصر المربَّع، ونخيلات لا تسمن ولا تغني من جوع، وأوقاف لطلبة العلم ومرافق المسلمين غمرها أنجاله بما لا يكاد يتصوره عقل لما غمرهم الرخاء.. إن الملك عبدالعزيز الذي منح فرداً من الزعماء (له ثقله في قلب الموازين بإذن الله) زكاة المنطقة الوسطى لمدة عام كامل - على الرغم من عَوَزِه -: يعطي البرهان القاطع بأنه ليس طالب دنيا ولا أي شيئ من بهرجها، وإنما وهب نفسه بكل مشاعرها لإقامة كيان ووحدة تَلْحسُ هموم الأمة.. وكان المشهور عنه رحمه الله إذا جلس بالصفاة، وكثرت المناويخ (الوافدون للعطاء)، وليس عنده ما يكفي: أنه في كل لحظة يصيح بعامل القهوة: (قهوةْ قهوةْ).. أي صب القهوة؛ فيقول الناس: (ماذا حصل لابن سعود اليوم؟)؛ لعلمهم أن ذلك عن ضيق صدر وترادف هموم؛ فإذا حصل له الرزق تبلَّجت أساريره، وصار ينفق ذات اليمين وذات الشمال، وكانت سيارته تمشي بسرعة أقل من سرعة الرجل الماشي وبين رجليه كيسة الدراهم يوزعها على المحيطين به من ذوي الحاجة، ويخصُّ المسنِّين بزيادة في العطاء؛ فلما استقام له بناء الدولة بناء حضارياً أنِف لشعبه عيشة التكايا، وألغى مَضِيفَ ثليم؛ فاتسعت أبواب الرزق، وكان المُسْتَحَقُّ من بيت المال يصل إلى المحتاجين في بلدانهم.. رحمه الله، وقدس روحه، ونوَّر ضريحه، وجعل عقد التواصل في عقبه خير خلف لخير سلف، وإلى لقاء قريب إن شاء الله، والله المستعان.
- عفا الله عنه -