منذ أزيد من سنة كان قد أعلن زعماء قبائل وسياسيون ليبيون في مدينة بنغازي عن تأسيس إقليم فيدرالي اتحادي في منطقة “برقة” بشرق ليبيا بدون اتفاق وطني وفي غياب حكومة مركزية قوية ومؤسسات ديمقراطية يحترمها الخاص والعام.. ولو تم
ذلك بالفعل لكان مطية لكثير من التشرذم والتفرقة وغياب اللحمة المؤسساتية الجامعة، ولكان ذلك قد أدى بالبلاد والعباد إلى كثير من المصائب والويلات الآنية والمستقبلية... ولا أدل على ذلك من المسيرات التي تحركت في تلك الفترة في مدن ليبية عدة كالبيضاء وطرابلس وشحات ودرنة وطبرق، حاملة لافتات رافضة للإعلان الممزق للوحدة الوطنية “الفتية”، خاصة أن إقليم برقة يمتد من حدود مصر في الشرق إلى سرت غربا.
إن استقراء تجارب الأمم وتاريخ الدول يحيلنا إلى قاعدة مركزية في بناء الدولة ما بعد الاستعمار أو الدولة ما بعد انهيار النظام السلطوي أو الدكتاتوري، ألا وهي الوحدة الوطنية وقوة السلطة المركزية أولا وقبل كل شيء؛ ثم بعد ذلك يمكن للسكان، وبعد تراض عام، اختيار النمط المناسب في الصفة الإدارية لجهات الدولة.
الوحدة تشمل وحدة الدولة والوطن والتراب التي لا يمكن لأي فيدرالية (مثل ألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية) أو جهوية متقدمة (كإسبانيا) أن تتم إلا في نطاقها؛ وليبيا اليوم مازالت في صدد تثبيت الوحدة الوطنية في ظل تنامي الكثير من الخلافات والصدامات بين القبائل وظهور عدد كبير من التشكيلات المسلحة التي يحارب بعضها البعض؛ ولا ننسى أن الجيش لا يزال يعيش مرحلة التكوين.
وتخصص أغلب دساتير العالم في يومنا هذا حيزا هاما للجماعات الترابية. فاللامركزية التي أصبحت مساوية لموضوع البيئة ولربما أكثر منه، هي موضة.. لكن هذا الأمر غير واضح لأننا لا نعرف في الكثير من الأحيان إذا ما كانت الدولة تريد أن تخول مسؤوليات إضافية للجماعات والأقاليم والجهات من أجل تقريب الإدارة من المواطنين؛ أم أن السلطات المركزية لم تعد قادرة على الاهتمام بكل شيء، فوجدت نفسها ملزمة بالتنصل منمسؤولياتها، علما بأن نقل المسؤوليات لا يواكبه دائما نقل الإمكانات المالية، ففي بعض دول العالم الثالث القديم، لاسيما الأقل نموا، ينبغي الاحتفاظ بالفرضية النابعة من ملاحظة القادة السياسيين حول عدم إمكانية الاستمرار في القيام ببعض المهام، ففي ظل هذه الظروف، قرروا القطع مع سياسة السنوات الأولى للاستقلال، المبنية على أساس سيطرة الحكومة المركزية على كل المسؤوليات؛ إلى درجة المطالبة ببناء دولة- أمة حقيقية مع شعور قوي بالهوية الوطنية، داخل الحدود المصطنعة التي رسمها المستعمر. وهذا الأمر لم يعد مناسبا جدا اليوم، ودساتير الدول الإفريقية الفرانكفونية تعكس هذا التوجه الجديد باستثناء عدد قليل منها... فكل الدول تقريبا تخصص بابا في القانون الأساسي للجماعات الترابية؛ علما بأن اعتناق هذه القيم هو حديث العهد. ويمكن أن نستند في هاته المقالة على تجربة المغرب في إقرار اللامركزية الذي يندرج في إطار تقليد أصيل في المملكة بل تاريخ هو قد سبق الاستعمار الذي يجد ترجمته منذ دستور 1962.
فقد خصص الدستور الأول من تاريخ المملكة الباب الثامن بكامله للجماعات المحلية. والحقيقة أنه مكون من ثلاثة فصول. يحدد الفصل الأول منها أنواع الجماعات الثلاثة الموجودة في البلاد وهي العمالات والأقاليم والجماعات (الفصل 93). ويعالج الفصل الثاني طريقة تسيير هذه المؤسسات أي عن طريق انتخاب مجالس منظمة ديمقراطيا (الفصل 94)؛ أما الفصل الثالث، فيشير إلى دور ممثلي الدولة على المستوى المحلي، وهم العمال المكلفون بتنفيذ قرارات المجالس وتنسيق نشاط الإدارات (الفصل 95). لا شيء في هذه الإجراءات إلا كونها كلاسيكية لأنها تكتفي بوضع إطار قانوني لهذه المؤسسات الذي يجب أن يتممه التشريع.
والمثير هنا أن كل فصل ينتهي بمرجع إلى القانون سواء تعلق الأمر بإحداث الجماعات أو تحديد شروط تدبير المجالس المحلية أو التنفيذ المخول للعمال. إننا نشعر وكأنه قد تم وضع حجر الأساس في انتظار أن يكمل المشرع بناءه. ولم يتغير الباب الثامن في دستوري 1970 و1972، غير أن الحكم الذي يشير إلى أن القانون هو الذي يخلق الجماعات المحلية، أصبح مخولا له “تأسيس أي جماعة محلية أخرى” (الفصل 86 من دستور 1970، والفصل 87 من دستور 1972، والفصل 94 من دستور 1992). أما في القانون الأسمى لسنة 1996، فسيظهر بعد جديد مرتبط بسياسات اللاتمركز ومركز على دور العامل في “تنفيذ قرارات الحكومة ولأجل هذه الغاية [...] تسيير المرافق المحلية للإدارات المركزية” (الفصل 102).
أما نص 2011، فقد سمح بقفزات دستورية مهمة، حيث لم يعد الأمر يتعلق بثلاثة فصول في الدستور وبالتحديد في الباب المعنون “الجهات والجماعات الترابية الأخرى” ولكن صار اثني عشر فصلا في المجموع.
في البداية هناك جرد للمستويات الثلاثة للإدارة التي أضيفت للدولة وهي الجهات والعمالات أو الأقاليم والجماعات (الفصل 135).
ويتعلق الأمر بأشخاص معنوية خاضعة للقانون العام، أما بالنسبة للجهات والجماعات، فيتم انتخاب مجالسها بالاقتراع العام المباشر، وهذه الأحكام التي دخلت في الدستور تتناول من جديد قواعد المستوى التشريعي الذي يشرف، ومنذ عشرات السنين، على تنظيم وتسيير الجماعات المحلية في المغرب. وهذا الذي دفع المشرع الدستوري ليعطيها قيمة دستورية.
وهي طريقة للإبقاء على بعض المكتسبات وإعطاء الثقة لأولئك الذين يتخوفون من سياسة اللاتمركز، إما لأنهم يرون فيها خطرا يكمن في تفتت الدولة، وإما يتخوفون من استيلاء المستوى المركزي، دون أن ننسى تخوف البعض من التحديث.
يجب أن يطمئن إذن أولئك الذين يخشون تداخل الإدارات والاختصاصات، فالجواب موجود في تطبيق “مبدأ التفريع” مع اختصاصات ذاتية للجماعات واختصاصات مشتركة مع الدولة واختصاصات منقولة إليها من هذه الأخيرة (الفصل 140). أما بالنسبة للذين يخشون نقل المهام دون مقابل، فالرد عليهم في القاعدة التي تقول بمنع أي نقل للأعباء دون نقل الموارد المقابلة لها (الفصل 141). أما بالنسبة للذين ينددون بخطر رؤية الجماعات الأكثر غنى يعبئون الوسائل الأكثر أهمية من أجل التنمية وبالتالي تفاقم اللامساواة، فقد تم إحداث صندوق للتضامن بين الجهات من أجل تقليص التفاوتات فيما بينها (الفصل 142). وبخلاف أولئك الذين يعلنون إقامة هرمية ضمنية بين مختلف مستويات الجماعات المحلية وآثار السيطرة التي ستعوض المراقبة السابقة للدولة، فقد حدد الدستور أنه “لا يجوز لأي جماعة أن تمارس وصايتها على جماعة أخرى” وأن الدور السامي للجهات في مجال التنمية والتدبير سيكون في نطاق احترام الاختصاصات الذاتية للجماعات الأخرى (الفصل 143). وأخيرا، بالنسبة لمن يخشون تراجع الدولة وفقدانها لدورها الأساسي في خدمة المصلحة الوطنية، فسيجدون في إعادة التأكيد على دور الولاة والعمال أسبابا كافية ليطمئنوا (الفصل 145)... دول كليبيا عليها أن تتفانى اليوم في تصور هندسة مجالية ترابية لخدمة الساكنة بطرق ذكية وجادة... فأولى الأولويات اليوم هو تحقيق الوحدة الترابية والوطنية التي انطلاقا من وجودها يمكن تصور كيانات جهوية تكون تأكيدا ديمقراطيا للتميز الليبي الغني بتنوع روافده القبلية والمجالية المنصهرة في هوية وطنية موحدة ولترسيخ أسس الحكامة الترابية الناجعة والمقاربة الترابية العقلانية والواقعية.