قال أبو عبدالرحمن: هذه (الحلقونات) من باب الغياب والاغتراب في هذه الأعوام القاتمة التي اُسْتُلْحِمَ فيها العالم العربي والإسلامي بمؤامرة عالمية مِن اثنتي عشرة راية؛ فَقَبِلْنا المؤامرة بأن تآمرنا على أنفسنا.
التَّراجع عن فتوىً عاطفية لا شرعية:
* كتبت في بداية التولُّع بمؤلفات ابن حزم أن مِن مذهب الإمام أبي محمد ابن حزم رحمه الله تعالى: أن الأَمَةَ لا ينفُذُ عِتقها إذا كان المُعْتِق كَلِفاً بها!!.
قال أبو عبدالرحمن: هذا هو والله الرأي المُرْسَل الذي قضى أبو محمد عُمْرَهُ في الردِّ عليه؛ لأنه لا برهان من الشرع على هذا الحكم؛ فإن احتجَّ لأبي محمد مُحتجٌّ بأن (ضرورةَ العقل حُجَّةٌ، وهي ههنا تضرُّرُهُ من العتق الذي يُحْدِث له سلوكاً رديئاً مع النساء، أو يقضي على قدرته العقلية أو الجسدية): قيل له هذه الضرورة غيرُ مراعاة شرعاً فيما أُبيحَ لنا من الزوجات وما ملكت أيمانُنا؛ فمن طلَّق امرأته ثلاثاً حرمت عليه إلا بعد زوجٍ آخر، بصريح النص، وبالإجماع الذي هو (ما يجب أن يكون عليه الاتِّفاق) في مذهب أبي محمد، وبالإجماع الذي مآله عند الجمهور: عدم العلم بمخالفٍ من أهل السنة والجماعة إذا كان (عدمُ العلمِ) يساوي (العلمَ بالعدمِ)؛ وعلى هذا يلزم أبا محمد - على مذهبه في الطلاق البدعي -: أن من طلَّق زوجته طلاقاً بائناً كطلاقها بالثلاث غير متتابعات، وكل واحدة بعد طُهرٍ، وهو كَلِفٌ بها لا ينفذ طلاقه!!.. وليس مذهبه كذلك؛ فيكون حُكْماه متناقضين.
قال أبو عبدالرحمن: ولما بحثت هذه الأيام عن هذه الفتوى من كتب ابن حزم - وكان بحثي على عجل وتوتُّر - لم أجدها ولا أدري أين قرأتها فليتفضَّل مَن يَدُلُّني على مكانها، وأخصُّ بالإهابة الشيخ عبدالحق التركماني؛ فإن لم يجدها؛ فأبو محمد مظلوم بسوء فهمٍ مني، أو قراءة سريعة، أو من مصدرٍ كذب على أبي محمد؛ فأستغفر الله وأتوب إليه، وكفَّارة ذلك أن أُجَدِّد له الأضحية هذا العام، والله المستعان.
***
تغزُّلٌ لا غَزَلٌ:
* * فَرْق ما بين الغَزَل والتَّغزُّل ظواهرٌ كثيرةٌ أَبْيَنُها التلاعبُ بالمُحَسِّنات البديعيَّة التي لا تجد لها سَعَةً في حشرجة المُصْطَلِم بالعشق.. وأكثرُ ما تجد هذه الظاهرة لدى المتأخِّرين الذين يتقصَّدون المُحَسِّنات البديعية؛ فيجعلونها غاية، ويكون شعرهم تغزلاً لا غَزَلاً.. من هؤلاء أحمد بن حسين الأرُجَّاني في قوله:
أتْرعْتُ في حجري غديراً للبكا
فعسى يلوح خيالُها من مائه
وقوله:
خدُّها يصبغ الدموع ودمعي
بصبغ الخدِّ قانياً بالدماء
خَضَب الدَّمعُ خدَّها باحمرار
كاختضاب الزجاج بالصهباء
فبربكم هل تَتَّسِع أشجان العُشَّاق لمثل هذا التعمُّلِ الجمالي؟!.. على أن في بعض شعر التغزُّل الذي يصدر عن قلب غير مشغول بالعشق ما يُثير أحزانَ وأشجان المتيَّم، وشعر الأرُجَّاني ههنا يُثير لذةً جمالية فكرية، ولا يثير عاطفة المُتلقِّي.. ومن هذا التغزُّل (لا الغزل) المثير هذا الزَّجَلْ لأحمد رامي على الرُّغم من أنه عاشقٌ حقَّاً صَنَّاجَتَه:
نام الوجود من حوالي
وأنا سهرت في دنياي
أشوف خيالك في عيني
واسمع كلامك واياي
وهذا المقطع:
ياللي رضاك أوهام
والسهد فيك أحلام
حتى الجفا محروم منه
يتمنَّى لو لم يُحرَم من السَّلْوى ما دامتْ مُعَذِّبتُه لن ينال منها إلا الأوهام والأحلام، ولكن (الجفا) مُنغِّصٌ جمالياً، والسلوى أقلُّ وطْأً؛ لأن المُتيَّم صبور يَتَعَلَّل بأدنى مُسلِّيات القُنوع التي بحثها المؤلفون في هذا الفن ككتاب (طوق الحمامة).. ولعل السِّت كانت تُمنِّيه قبل زواجها؛ فلم يجد إلا الأوهام والأحلام مع الالتقاء من أجل عملها الفني؛ فوَدَّ حينئذٍ أن لا توجد تلك الأمنيات، وذلك هو الجفاء الذي حُرِم منه؛ فحينئذ يكون تمنِّيَ الحرمان مِن الجفاء تَمَنُّياً مشكوراً.. وألذُّ وأمتع مِن ذلك أن لا يكون قادراً على أن يجنوها؛ فهذا معنى الحرمان ههنا.
***
حُجِّيَّة القسمة الحاصرة:
القسمةُ الحاصرةُ ذاتَ منفعة كبيرة في تصحيح مسائل الشريعة؛ فمن ذلك أن بعض الفقهاء ذهب إلى جَمْعِ المأموم بين التسميع والتحميد بعد الركوع.
قال أبو عبدالرحمن: لا أعلم لهذا المذهب برهاناً إلا ما حكاه الطحاوي وابن عبدالبر رحمهما الله تعالى مِن الإجماع، وما ذكروه من حديث في سنن الترمذي بإسناد ضعيف، ودعوى الإجماع غيرُ صحيحة؛ لهذا أذكر برهاناً ضرورياً على أن المنفرد يجمع بين التحميد والتسميع بخلاف المأموم؛ وهذا البرهان من مسائل الدليل التي تتكوَّن من ضرورة لغوية ولزوم عقلي؛ وبيان هذا البرهان أنه ثبت بحديث أبي هريرة رضي الله عنه المتفق عليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين التسميع والتحميد، ثم ثبت بالحديث الصحيح الآخر المتفق عليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «صلوا كما رأيتموني أصلي»، ثم رأينا بالقسمة العقلية الضرورية: أن كل مُصَلِّ: إما أن يكون إماماً، وإما أن يكون مأموماً، وإما أن يكون منفرداً.. ولا رابع لهذه الأقسام في تصوُّر العقل، ولا في الواقع، ولا في مدلول اللغة.. ثم رأينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر المأمومين بالاكتفاء بالتحميد؛ فمن جميع هذه الضرورات تحتَّم أن يكون المأموم مكتفياً بالتحميد، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بذلك، وتحتَّم أن يكون الإمام والمنفرد جامعين بين التحميد والتسميع؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بينهما في صلاته، وقد قال: «صلوا كما رأيتموني أصلي»؛ فوجب أن نتأسَّى بفعله صلى الله عليه وسلم امتثالاً لعموم قوله، إلا ما خصَّصه استثناؤه حالة المأموم.. وسمع الله لمن حمده تَعدَّى فيها فِعْلُ (سمع) بحرف الجر.. أي للذي حمده، وسمع يتعدَّى مباشرة، والتعدية بحرف الجر أبلغ ههنا؛ لأن لام الجر دالة على الخصوصية، والله سميع في كلِّ حين وآن، ولكنه سَمْعُ عناية ورضا من الله على مَن حَمِدَه.. ويجوز في النحو الصوري أن تُقَدِّر مفعولاً هكذا: (سمع الله التحميدَ لمن حمِده)، ولكن هذا باطل بالنحو الثاني (البلاغة)لأنه يلزم حينئذ أن تقول (مِمَّن حمِده) ؛ ليتخصص التحميد بأنه حمدٌ لله؛ فلما كان النص (لمن حمده) باللام تعيَّن بلاغةً أن المراد سَمْعُ العناية، ومعلوم أن المسموعَ حَمْدُ الله من قوله (حمده).. ومن ضرورات اللغة ضرورة تفسير (الجَدِّ) بالحظِّ؛ وذلك بفتح الحاء.. لا بالاجتهاد بِجَعْل الجيم مكسورة؛ ففي الأحاديث الواردة في الدعاء بعد الرفع من الركوع حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (وإذا رفع رأسه قال: اللهم ربنا لك الحمد: مِلْءَ السموات وملء الأرض، وملء ما بينهما، وملء مشئت من شيئ بعد.. أهلَ الثناء والمجد.. أحقُّ ما يقول العبد - وكلُّنا لك عبد -: اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا مُعْطيَ لما منعت، ولا ينفع ذا الجدِّ منك الجَدُّ).. رواه أحمد ومسلم والترمذي وأبوداود والنسائي وابن حبان والشافعي في مسنده، وقوله: (ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجد) إنما هو بفتح الجيم إلا أن الإمام أبا عمر بن عبدالبر حكى عن بعض العلماء رحمهم الله تعالى ضَبْطَ الجيم بالكسر (أي الجِدِّ) مع أن الإمام أبا جعفر بن جرير - وهو قبل ابن عبدالبر بزمن طويل، وهو من المستوعبين السنةَ النبوية المطهرة - بيَّن أن أهل النقل لا يعرفون هذه الرواية (أي رواية الكسر).. ولا ريب أن كُلَّاً من فتح الجيم وكسرها له مدلوله الخاص؛ فالجَدُّ بالفتح بمعنى الحظُّ، والجِد بالكسر بمعنى العمل بعزيمةٍ وجُهْد.. وكل واحد من هذين المعنيين صالح في سياق الحديث.. أي لا ينفع ذا الحظ حظُّه، ولا ينفع ذا الاجتهاد اجتهاده.. إلا أن المسألة مسألة توثيق ثبوتٍ؛ فما دام حُفَّاظ الحديث رووه بالنصب فلا معنى لدعوى كسر الجيم من الجد، بل إن الفتح مع ثبوته ضبطاً في النقل هو الأنْسبُ لمراد الشرع، وبهذا كان الأنسبُ ضرورةً شرعية، وأما الجِدُّ بكسر الجيم بمعنى الاجتهاد فهو مقصد شرعي يحثُّ الإسلامُ عليه؛ لعظيم منفعته، ولأن الاجتهاد مشروط بالاستعانة بالله، ولأن الإعطاء والمنع والقضاء من الله؛ فلما جاءت صيغة (ينفع) عُلِمَ أن المراد ما أمضاه الله من حظوظ الدنيا، وأما الحظُّ الموصِّل إلى مرضاة الله وتحصيل ثوابه فهو الحظُّ النافع الذي يُدَندِن حوله كلُّ مسلم، ثم جاء في الحديث (ذا الجَدِّ منك) أي ما أمضاه الله من حظوظ الدنيا، والعرفُ غلب على استعمال الحظ في المنافع، ثم قال (الجَدُّ) محلَّاةً بالألف واللام؛ فصارت (ال) للدلالة على المعهود في السياق، وهو الحظ الدنيوي في قوله: «الجدِّ منك «.. والجد بكسر الجيم منسوب إلى لمكلف بما أعطاه الله من قدرة وحرية في الجدِّ أو التكاسل؛ فامتنعت دلالة (مِنْكَ) على الاجتهاد الذي هو من المكلف.. ومن القسمة الحاصرة أن الله شرع لنا تسبيحاً ودعاءً في السجود، وتعظيماً للرب في الركوع، وههنا اختلف العلماء رحمة الله عليهم؛ فذهب جمهور العلماء من أرباب المذاهب المتبوعة إلى أن هذا الدعاءَ في الركوع والسجود سنةٌ وليس واجباً كالشافعي ومالك وأبي حنيفة وأصحاب الإمام زيد بن علي.. وقال جميع أئمة أهل الظاهر: إن الدعافي الركوع والسجود واجب، وهو شرط لصحة الصلاة على الإطلاق، وقال الإمامان أحمد ابن حنبل وإسحاق بن راهويه: هذا الدعاء واجب، وهو شرط لصحة الصلاة إن تركه عمداً؛ فإن نسيه صَحَّتْ صلاتُه وسجد للسهو، وهو مذهب ابن خزيمة صاحب الصحيح.. والذي أُحققِّه أن الصواب إن شاء الله ما ذهب إليه أحمد وإسحاق وابن خزيمة، وهو أن الدعاء واجب، وهو شرط لصحة الصلاة إن تركه عمداً؛ فإن تركه ناسياً أو جاهلاً صَحَّتْ صلاتُه، وأما إيجاب سجود السهو فله مناسبة تأتي إن شاء الله، وهو واجب في هذا الموضع إن لم يَنْسه.. والبراهين على ما اخترته كثيرة:
البرهان الأول: أن الله سبحانه وتعالى قال: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيم (74) سورة الواقعة و 96، وسورة الحاقة/52]، وقال: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) سورة الأعلى؛ فدلَّ ذلك على الوجوب؛ لأن ما في النص صيغتا أمر، والأمر في الأصل للوجوب، ثم جاء البيان من رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن إيجابَ هذا الأمر الإلهي يكون في الصلاة؛ فقال عليه الصلاة والسلام عندما نزل قوله تعالى: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ : (اجعلوها في ركوعكم)، ولما نزل قوله تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قال: (اجعلوها في سجودكم)؛ فقوله صلى الله عليه وسلم: (اجعلوها) صيغة أمر تقتضي الوجوب، وأن محله الصلاة.
والبرهان الثاني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوجب علينا بأمره القولي أن نصلي كما يصلي فقال: (صلوا كما رأيتموني أصلي)؛ فبحثنا عن سيرته العملية لنرى كيف كان يصلي؛ فوجدناه عليه الصلاة والسلام يقول في ركوعه: (سبحان ربي العظيم) وفي سجوده: (سبحان ربي الأعلى) بموجب الأحاديث الصحيحة المذكورة آنفاً؛ فوجب علينا أن ندعو بهذا الدعاء في ركوعنا وسجودنا؛ فإن لم نفعل فقد خالفنا أمره في قوله صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي)؛ فصح أن هذا الدعاء واجب، والمراد بالرؤية ههنا ما أخبر به من فعله وأمره؛ فجاءت الرؤية تجوُّزاً؛ لأن ما أخبرنا به، وما نُقل إلينا من سماع ما يقول في ركوعه وسجوده: شهادةُ حسٍّ، والحواسُّ يكمِّل بعضها بعضاً، ورُؤية العقل شاهدة بهذا.
والبرهان الثالث: أن الساجد والراكع لا يخلوان من ثلاث حالات - وهذه هي القسمة الحاصرة التي أعنيها - لا رابعة لها في تصور العقل وواقع الحس: فإما أن يسكت في أثناء الركوع والسجود، وإما أن يقول أيَّ دعاء أو تلاوة، وإما أن يقول قولاً مُعَيَّناً؛ فأما السكوت فلم أجد مطلقاً في نصٍّ شرعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سكت في ركوعه وسجوده، أو أمر بذلك أو أباحه بقوله أو فعله؛ فصار السكوت عملاً ليس عليه أَمْرُ الشرع؛ فنظرنا فيما يقول الراكع والساجد: أمباح له أن يقول أي شيئ في أثناء ركوعه وسجوده، أو لا بد له من كلام مُعَيَّنٍ يقوله ؟.. فرجعنا إلى مَن تجب طاعته وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدناه عيَّن شيئاً بعد النهي عن شيئ؛ إذ قال: (ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً.. أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء)، ثم بين عليه الصلاة والسلام ما يقال في السجود من تعظيم وتسبيح ودعاء، وما يقال في الركوع من تسبيح وتعظيم؛ فلو اكتفى عليه الصلاة والسلام بالنهي عن قراءة القرآن لقلنا: (كلُّ كلام تَعَبُّدي جائز في الركوع والسجود غيرُ القرآن)؛ فلما عيَّن ما يُقال في السجود والركوع صحَّ بذلك أن السكوت لا يجوز، وأن أيَّ كلام لا يجوز أيضاً إلا أن يكون تعظيماً وتسبيحاً ودعاء؛ فصح بذلك أن التعظيم والتسبيح في الركوع واجب، وأن التسبيح في السجود موسم لقبول الدعاء لا تبطل الصلاة بتركه بأدلة من خارج، ولكنه موسم لقبول الدعاء فوق كل موسم، والدعاء واجب على الإطلاق، وتخصيص السجود موسماً لتحرِّي قبوله سُنَّة مُؤكَّدة لا يرغب عنها إلا مَن سَفِهَ نَفْسَه.. والعقل إذا حصر بضرورة فكرية أو حسية ثلاثَ حالاتٍ لا رابعة لها، ووجِد حُكمُ الثالثة مُلْغياً لهما: وجب حكمُ القسم الثالث الذي لا بديل له.. ومثل هذا البرهان فطرةٌ في العقول، وهو من بدائه لغة العرب، وقد خاطب ربنا عقولَ العرب بهذه البديهة؛ إذ بين لهم سبحانه أنه ليس بعد الحق إلا الضلال؛ ذلك أن البرهان إذا قام على أن هذا ضلال تعيَّن بالضرورة أن غيره هو الحق؛ لأنه ليس في القسمة الجامعة إلا الحق والضلال ولا ثالث لذينك.. ولكنَّ الضلال له نقيضان باعتبارين؛ فنقيضه الباطل إذا أريد الاعتقادُ بثبوت أو نفي وجود شيئ، أو الحكم عليه بأنه مَثَلاً عدلٌ أو جورٌ.. ونقيضه أيضاً الضلال إذا أريد سلوكُ المكلَّف؛ لأنه ضلَّ عن سبيل ما جعل الله له سلوَه.
والبرهان الرابع: أن مشروعية الدعاء وردت بصيغٍ تُعرف عند العرب بالأوامر، ويَعرِف مدلولَها البدويُّ الأميُّ المتلفِّعُ في شملته؛ لأن مدلول هذه الصيغ يقتضي الإيجاب.. ولا ريب أن كلام العرب من شعر ونثر مليئ بصيغ أمر لا تقتضي الإيجاب كقول المستقوي بقوته: (اضرب)؛ فهذا تهديد أو تعجيز وليس إيجاباً؛ وإنما المعنى: (إن استطعت الضرب فاضرب).. يقال هذا على سبيل التحدِّي والإعجاز أو التهديد.. وكقول العربي: (يا فلان انظر موطئ قدمِك) فهذا أمر لا يُفهم منه الإيجاب، وإنما يفهم منه التحذير من التهوُّر.. وفي عرف العرب أن الموظف الصغير إذا قال لرئيسه من وزير وغيره: (اكتب لفلان بكذا) أن ذلك ليس إيجاباً؛ لأنه لا يملكه، وإن كان بصيغة الأمر؛ وإنما هو مَشُورة واستشفاع واقتراح.. إلا أن هذه المعاني المخالِفة الإيجابَ إنما تُفهم بدلائل خارجية غير أصل دلالة (اِفْعَلْ) كفهمها من سياق الكلام، أو من حال المتكلم أو المخاطَب؛ فإذا لم توجد هذه الدلائل الخارجية فيجب حمل صيغة الأمر على مدلولها المفهوم منها نفسها، وهو الإيجاب بموجب لغة العرب وبدائه العقول.. ومشروعية الدعاء في السجود والركوع ثابتة بأوامر شرعية، وليس هناك قرائن أو دلائل تصرفها عن أصلها؛ فوجب أن تُحمل على أصلها، وهو الوجوب؛ لأن أوامر الشرع إذا تجرَّدت من القرائن آكدُ في الإيجاب من كلام كلِّ عربي؛ وبرهان أن ذلك آكد أن الشرع إذا كان خطاباً تكليفياً فمحلُّ المخاطَب الامتثالُ؛ لأنه مكلف، ومحلُّ النص الإيجاب؛ لأن مُنزِّل النص هو الواجبةُ طاعتُه.. وأملح وأمتع وأقوى تحقيقٍ رأيته عن الأوامر في جميع كتب الأصول والمنطق هو ما كتبه الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى في الإحكام والتقريب؛ ففي كتاب الإحكام استوفى البدائه العقلية القاضية بحمل الأمر على الوجوب في الأصل، وفي التقريب استوفى البدائه اللغوية القاضية بحمل الأمرِ على الوجوب.. وإنَّ مَن أراد أن يرزقه الله فقهاً في الدين فعليه أن لا يَشقَّ على نفسه بإقحام مدلول المصطلحات البشرية من علوم الأصول والمنطق في فهم دين ربه؛ فهذا ضياع للذهن والوقت؛ وإنما عليه مزاحمةُ صَدْرِ أتباع السلف الصالح؛ بأن يكون الاتِّباع بإحسان؛ وذلك بحذق وسائل الاستنباط الصحيحة قبل فساد السليقة العربية؛ وتلك الوسائل محصورة في الحذق الجيِّد للغة العرب مفردةً وصيغةً ورابطةً وسياقاً وبلاغةً، مع الاحتفاء ببدائه العقول، وقوانين الفكر الضرورة؛ فيستعمل هذه الوسائل في فهم النص الشرعي الصحيح، مع التبحُّر في قراءة كتب الحديث ذوات الأسانيد؛ فإذا رجع إلى كتب الفقه أو الأصول؛ ليشرف على مذاهب العلماء المسلمين فليكن رجوعُه رجوعَ المقتنِع بوسائله في الاجتهاد؛ فيردَّ كل خلاف إلى بدائه اللغة والعقول واطِّراد الأصول.. ولقد رأيت التحقيق اللغوي في النصوص الشرعية النازلة بلغة العرب مع استحضار بدائه العقل يَحُلُّ خلافاً فقهياً كثيراً، ويُضاف إلى ذلك تركيبُ البرهان الواحد من عشرات من النصوص وردت في مقاصد مُعَيَّنة؛ فهذا يرفع التعارض من أفهام المسلمين؛ لأن ضم مفهوم نص شرعي إلى مفهوم نص شرعي آخر يُحدِّد مقاصد شرعية؛ فَيَتَحَتَّم الرجوعُ إليها عند الاختلاف؛ فتكون من قواطع الإسلام وضروراته كالاستدلال على أن عقوبةَ الشرع أصغر من حجم الجريمة؛ فهذا لا تجده في نص شرعي واحد، ولكنك تُبلْوِره من مفهوم نصوص كثيرة.
والبرهان الخامس: أن من ترك الدعاء المشروع في الركوع والسجود: إما أن يكون ناسياً الدعاء، أو جاهلاً به؛ فهذا ساقط عنه الحرج حتى يذكر أو يتعلَّم، وتعلُّمه واجب لا يُعذر المكلف في ترك التعلُّم، ويُمجِّد ربه بما يعلمه من لغته العربية أو العامية أو الأعجمية حتى يتعلم، وصلاته صحيحة حال نسيانه وجهله؛ لأن الله لا يكلف نفساً فوق وسعها؛ فإن وجب عليه سجود سهو إذا ذكر كما قال الإمامان أحمد وإسحاق فذلك بدليل آخر؛ فإن ترك الدعاء المشروع في الركوع والسجود وهو عالمٌ وجوبَه ذاكرٌ حكمَه فقد صلى وهو متعمِّد المخالفة؛ فصلاته باطلة؛ لأنه تعمَّد أن يصلي بغير ما أُمِر به شرعاً، وهو في نفس الوقت عاصٍ آثمٌ؛ لأنه متعمِّدٌ المخالفةَ؛ وبهذا نعلم صحة مذهبي الإمامين أحمد وإسحاق في اشتراط الدعاء لصحة الصلاة في حالتي العلم بالحكم وذكرِه، وأما اشتراط علماء الظاهرية رحمهم الله الدعاء لصحة الصلاة مطلقاً في حالة العمد والنسيان والجهل: فلا وجه له إلا التعلُّق بأن النهي يقتضي الفساد، وهذه القاعدة إنما تصحُّ إجمالاً، ولها تفصيلات يجب مراعاتها؛ فمن عَمِل أمراً مُحَرَّماً في عبادته فلا تفسد عبادته إلا إذا قصد إفسادها؛ بأن يرتكب النهي عمداً؛ فإن ارتكب النهي جهلاً أو نسياناً فجهله ونسيانه معفوٌّ عنه بموجب قواطع الإسلام إلا إن كان لجهله ونسيانه كفارة مشروعة كالسجود للسهو؛ فإن لم يسجد للسهو إذا ذكر قبل إنهاء الصلاة فقد تعمَّد إفسادَ عبادته؛ فصلاته باطلة، وهو آثم لعصيانه الأمر بالسجود.. وأما تعمُّد مُرْتكبِ المنهيِّ عنه في العبادة فهو آثم بذلك؛ لتعمده الفعلَ، وعبادته فاسدة؛ لأنه تعمَّد إفسادها.. وكل هذه بدائه عقلية لا تحتاج إلى طول نظر.
* * *
لا يزالُ في ريقي بَلَلٌ:
شيخ الكلمةِ المَغْنواتِيَّة أحمد رامي كثير (الآهات)، ولكنه لا يسفل إلى المفاتن الجسدية.. دخلت عليه بنت إبراهيم في أواخر العمر تُهَنِّئُهُ بعيد ميلاده - وتلك بدعة في عالمنا العربي والإسلامي هي (جُحْرُ الضب) - وفي منقارها هذا الشدو:
كيف أنسى ذكرياتي
وهي أحلام حياتي
إنها صورة أيامي
فدمعتْ عيناهما، ولا يلامان؛ فكلاهما في عشر الثمانين، وكلاهما صَفِيَّان على الضَّنى!.. فوارحمتاه لقلبيهما: أيُّ شعورٍ يساورهما، وقد شاب الحب وشاب الفنُّ بآهاته وتهويماته، ودنا الهيكلان من حافة القبر.. وأرجو أن يكون الله ختم لهما بخير، وأرجوه جلَّ جلاله أن يختم لنا بخير، وأن يعاملنا بعفوه لا بعدله.. آمين آمين يا رب العالمين.
قال أبو عبدالرحمن: ولعلَّ الشيخين - وتدخل الست (الشيخة) بالتغليب كالقمرين والعُمرين - أكثرا الآهات ولم يتركاها وليس في ريقهما بلل، وأما الظاهري بحمد الله فقد كان غَضَّ الإهاب، وتُعِينه رطوبة الريق على الدندنة بأعذب الآهات؛ فأدركته عَزْمَة من عزمات ربه (وريقه أغزر بللاً)؛ فاستغلَّ تلك الغزارة للتغنِّي بكلام ربه، والإصغاء إلى ذوي الصوت الجميل بالتلاوة من غير مقامات عراقية ولا (رَصَدٍ) أُحِسُّ بها في أصوات بعض المؤذنين، وكانت (آهاتي) بين الخوف والرجاء، والرجاء أظهر عندي أُنْساً بدين ربي، وتمتُّعاً بنعمه، وشوقاً إلى وعده، وهو بفضل الله أكثر من وعيده مَن مَرَّت به معاصٍ من المؤمنين.
* * *
العَالَمُ مُسَيَّسٌ لخدمة إسرائيل:
* * يقول لورانس براون: « كان قادتنا يخوِّفوننا بشعوب مختلفة، لكننا بعد الاختبار لم نجد مبرراً لمثل تلك المخاوف.. كانوا يخوِّفوننا بالخطر اليهودي، والخطر الياباني الأصفر، والخطر البلشفي.. لكنه تبين لنا أن اليهود هم أصدقاؤنا، والبلاشفة الشيوعيون حلفاؤنا، وأما اليابانيون فإن هناك ديمقراطية كبيرة تتكفل بمقاومتهم.. لكننا وجدنا أن الخطر الحقيقي علينا موجود في الإسلام، وفي قدرته على التوسع والإخضاع، وفي حيويته المدهشة «.. وكرَّر ههنا قول غلادستون: « ما دام القرآن موجوداً في أيدي المسلمين، فلن تستطيع أوربا السيطرة على الشرق، ولا أن تكون هي نفسها في أمان «.. وقال المستشرق عاردنر: « إن القوة التي تكمن في الإسلام هي التي تخيف أوربا «.. وقد تناقل هذه الأقوال من مصادرها فضلاءُ من أمثال أحمد الجندي ومحمد أسد.. وكتاب (قادة الغرب يقولون) مليئ بمثل هذه الأقوال المُوَثَّقة، بل قال راندولف تشرشل في كتابه (حرب الأيام الستة) - كما في كتاب قادة الغرب ص 26 -: «لقد كان إخراج القدس من سيطرة الإسلام حلم المسيحيين واليهود على السواء.. إن سرور المسيحيين لا يقل عن سرور اليهود.. إن القدس قد خرجت من أيدي المسلمين، وقد أصدر الكنيست اليهودي ثلاثة قرارات بضمها إلى القدس اليهودية، ولن تعود إلى المسلمين في أية [الصواب: في أيِّ] مفاوضات مقبلة ما بين المسلمين واليهود «.
وهذا قرار حاسم من كاتب في العالم المتنفِّذ، وقد بلغ هذا القرار ذروة نتيجته بذبح العرب والمسلمين وإحراق ديارهم، فكل الشرق عُرِّي إلا من مناصري إسرائيل (الباطنية)، وهكذا عُرِّي الغرب.. وكلُّ الشمال في حوض البحر الأبيض وما وراءه نصير إسرائيل، واليمن من الجنوب مُدَمَّرة، ولم يبق من الجنوب إلا المملكة العربية السعودية بجهادها السياسي والدعوي والمالي مع كثرة الخاذلين والمنافقين.. والعالم الإسلامي - على الرغم من خُذلان القومية العربية له وجفائها - في حريق كالحريق العربي.. ونحن نعيش على وعد ووعيد صادقين من ربنا هما: « ويل للعرب من شَرٍّ قد اقترب « - وهو صحيح المعنى، مُمْتَدُّ الزمن -،
و « لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة.. « الحديث.. ومن سيرة التاريخ فلا بد لهذا القطيع العربي والإسلامي من فيئةٍ يتحرر فيها من (التآمر على نفسه)، وحينئذ لا يغلبهم بإذن الله غالب.. وأعظم دولة - والعظمة لله وحده - اليومَ الولايات المتحدة، وهي الغنيمة الكبرى التي وَقَعَت في شَرَك السَّبْتِيِّين؛ فهذا ميشيل كروزييه لما تكلم عن الوضع في أمريكا منذ كينيدي إلى كارتر قال: «منذ عهد كينيدي كان رؤساء الولايات المتحدة جميعهم رؤساء غير متوقعين».. ثم عقَّب بقوله: « إذا كان من الصعب على الأمريكيين أن يجدوا زعيماً حقيقياً فهذا لا يعود للنضوب الأخلاقي وحتى [حتى لغو ] المادي الذي سببته هذه السنوات الاثنتا عشرة من رئاسات مأساوية فحسب، بل لأنهم عاجزون كل العجز عن فهم ما يصيبهم، وهو أن بلدهم الذي بقي زمناً طويلاً أقوى بلد في العالم، وفي ازدهار اقتصادي مستمر منذ القرن السابع عشر: أصبح دفعة واحدة فريسة لوضع انحطاطي كهذا، وهذا ما لم يكن يخطر على بال أحد منهم.. العالم كله يعي بغموضٍ أن أمريكا 1980م لم تعد هي ذاتها [أي نفسها]، لكنَّ أحداً ليس مستعداً بعدُ لتقبُّل ذلك، وقد بدأ الغشاء يتمزق بسبب رعونة وأخطاء إدارة كارتر».. الداء الأمريكي ترجمة عبداللطيف أفيوني، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ص 127.
قال أبو عبدالرحمن: ما بعد كارتر أَدْهَى وأمَرُّ، وإلى لقاء عاجل إن شاء الله، والله المستعان، وعليه الاتكال.
- عفا الله عنه -