لا تزال الأحزاب السياسية تعيش على وقع الاجتماعات المكثفة فيما بينها للتشاور بشان التوافق على حل للمسار الحكومي المتعثر بسبب تمسك حركة النهضة الحاكمة وحلفائها بمرشحها لمنصب رئاسة الحكومة فيما ترفض الجبهة المعارضة هذا الترشيح وتقترح مكانه إحدى الشخصيات التي عملت في حكومتي بن علي ويورقيبة.
وفيما تشتد التجاذبات وتشتعل الحروب الإعلامية بين طرفي النزاع، قال الحسين العباسي رئيس اتحاد الشغل الذي يقود الرباعي الراعي للحوار بأنه تم استبعادذ كلا المرشحين على خلفية أنهما يظلان السبب الرئيس لتعليق الحوار الوطني ولا يمكن بذلك استئنافه إلا متى تم التخلي عن الشخصيتين معاً واقتراح قائمة أخرى لأسماء وقع طرحها في السابق أو لم يستنجد بها أصلا لخلافة علي العريض على رأس الحكومة الجديدة.
قرار الرباعي الراعي للحوار، وإن لم تصدر ردود فعل رسمية بشأنه، شكل نقطة انطلاق لجولة جديدة من المشاورات صلب الأحزاب وفيما بينها، في وقت طفت على سطح الأحداث المعارك الطاحنة بالمجلس التاسيسي «وغضب» اعضاء التكتل بالمجلس على خلفية تعديلات ادخلت على النظام الداخلي للمجلسي في خطوة اعتبرها التكتل حدا من صلاحيات رئيس المجلس التأسيسي ورئيس حزب التكتل مصطفى بن جعفر.
«الانقلاب» داخل المجلس كما يسميه أعضاء التكتل وأعضاء أحزاب المعارضة، أفضى إلى تشكل جديد للمشهد السياسي المحلي، خاصة بعد تعليق التكتليون أنشطتهم البرلمانية في انتظار يوم الاثنين حيث من المنتظر أن يعود الجميع إلى قبة المجلس للنظر في إمكانية سحب التعديلات أو حتى مجرد إعادة النظر فيها بما يضمن تساوي الأوزان داخله.
فالتعديلات التي فرقت بين حلفاء الأمس وجعلت منهم اليوم أعداء، تمنح نواب حركة النهضة والمؤتمر أكبر قدر من التأثير في سير أعمال المجلس حيث تنص على أنه بإمكانهم تجاوز رئيس المجلس وعقد جلسات عامة والمصادقة على القوانين دون حضوره.
المحللون السياسيون الذين استغربوا تنقيح القانون الداخلي للمجلس، أجمعوا على أن النهضة التي استقال رئيس حكومتها وبالتالي سلم مقاليد السلطة لحكومة كفاءات مستقلة في انتظار تشكيلها قريباً، أحكمت بعد قبضتها على دواليب الدولة من جهة المجلس التأسيسي باعتبياره أعلى سلطة شرعية في البلاد حالياً.
وبالتالي فالقول بأن النهضة غادرت الحكم لا معنى له، والحال أن بيدها الحل والربط في المجلس التأسيسي الذي تمتلك فيه الأغلبية بمساندة حليفيها المؤتمر والتكتل. وحتى في حال انخرام عقد الترويكا على مستوى الحكومة، «يظل الزر النووي بيدي النهضة» حسب تعبير أحد قياديي المعارضة.
وبالرغم من غضبهم الشديد جراء هذا التعديل، وبسبب التصدع الداخلي الذي تعيشه أحزابهم ولا يجدون له حلاً جذرياً، يشكك قياديو المعارضة في نجاح الرباعي الراعي للحوار في إصلاح ذات البين بينهم وبين النهضة الحاكمة التي ما فتئت تناور وتحيك القفزات السياسية بما أربك حسابات تيارات المعارضة التي لم تتوفق في إيجاد أرضية صلبة تقف عندها لتوحيد صفوفها في مواجهة الخصم العنيد.
وقد جاء البيان الذي أصدرته جبهة الإنقاذ المعارضة ليشدد على وجوب إعادة النظر في التنقيحات التي أدخلت قسراً على النظام الداخلي للمجلس، فيما رأى الحزب الجمهوري المساند لترشيح النهضة للسشيد أحمد المستيري على رأس الحكومة الجديدة، أن مقدمة البيان لم يتم الاتفاق بشانها وهي تتضمن إدانة واتهاما للنهضة بتعطيل الحوار.
وهكذا يتضح الارتباك على مستوى تعاطي المعارضة مع القضايا الساخنة ويظهر جليا عدم قدرتها على توحيد كلمتها في مواجهة حركة النهضة وكل ما تعلن عنه من قرارات لها تأثير على سير الأحداث سواء في المجلس التأسيسي أو داخل قاعات الحوار الوطني المغلقة.
ومما زاد من متاعب المعارضة المتآكلة أصلاً، ما أعلن عنه أمس من تشكيل كتلة برلمانية جديدة صلب المجلس التأسيسي بدأت المزايدات بشأنها تتضاعف حيث أعلن أصحاب المبادرة أنهم يرمون إلى توحيد شتات بعض الكتل والمجموعات غير المنتمين إلى كتل. ومما لا شك فيه أن الكتلة الجديدة «ائتلاف من أجل الشعب» والتي ينظر إليها بأنها ثاني أكبر كتلة بعد النهضة في المجلس، ستغير موازين القوى داخل المجلس، خاصة وأنها ترنو إلى مواجهة كل «الانقلابيين على الشرعية الداعين إلى حل البرلمان في إطار برنامج انقلابي خبيث لإحداث الفراغ المؤسساتي بما يعرض أمن البلاد ومصيرها لمخاطر التدخل الأجنبي والتفريط في استقلالها، «وفق ما أعلن عنه أول أمس.
والحقيقة التي لم تعد خافية على أحد، أن النهضة التي لم تتردد في التوقيع على خارطة الطريق التي قدمها رباعي الحوار، ثم سارعت بتنفيذ البند الأول من الخارطة، فتعهد علي العريض بتقديم استقالة حكومته ليفسح المجال لتشكيل حكومة كفاءات مستقلة، إنما كانت تحضر لأمر جلل اتضحت أهميته بتمرير التعديلات على النظام الداخلي للمجلس بما يمنحها صلاحيات واسعة تتمكن بفضلها من رفض كل ما لا يروقها من نتائج الحوار الوطني.
ومما لا شك فيه، واستناداً إلى ازدياد الضغوط الداخلية والخارجية (من طرف الدول الغربية والعربية الكبرى الداعمة للتجربة الديمقراطية في تونس) على طرفي النزاع، أن الأيام القليلة المقبلة ستكون حاسمة على مستوى بلورة رؤية واضحة داخل كل حزب بخصوص موقفه من المسار الحكومي والمسار التأسيسي اللذين تعطلا بما أعاد التونسيين إلى المربع الأول في جو من انعدام الثقة بين الفرقاء السياسيين فيما بينهم من جهة وبينهم جميعاً وبين الشعب التونسي الذي لم تعد تهزه أخبار السياسة والسياسيين « الذين خانوا العهد» وفق تعبير السواد الأعظم من التونسيين.