قبل أسبوع شاهدنا حفل تكريم المواطنة السعودية (رها رضا المحرق) لإنجازها كأول امرأة سعودية مهمة التحدي الكبرى، وهي تسلق قمة إيفرست التي دوخت أبطال التسلق وقتلت بعضهم، وهي بهذا تلحق بالرجل السعودي الذي سبقها إلى هذا الإنجاز قبل خمس سنوات: فاروق الزومان.
لكن هذه المرأة عندما ترغب في أخذ سيارتها لإنجاز عمل مهم فسوف يوقفها رجل المرور قائلا بكل أدب: أنت ممنوعة من قيادة السيارة، فأوقفي السيارة وتفضلي بالنزول واستدعي أحدا من أهلك ليقودها. مفارقة عجيبة! نجاح باهر في أعلى قمة جبل في العالم، كانت بطلته امرأة سعودية، وإخفاق على سطح الأرض، ما كانت هي بطلته على أي حال، بل دفعتها إليه المخاوف من عواقب ممارسة المرأة لحقها في قيادة السيارة.
وتستند هذه المخاوف إلى محاذير شرعية أو أمنية، يتبين بعد التمحيص أنها إما قابلة للإزالة، أو متوهمة، أو أن أثرها ضعيف لا يبرر حرمان المرأة من ممارسة حقها، ولا اعمال مبدأ (تقييد المباح بتأصيل شرعي). وإذا لم نكترث بهذا الحق أصلا يصبح بناء الذرائع سهلا. لكن يوجد - ولله الحمد - اكتراث بهذا الحق أو - على الأقل - اعتراف بحق المطالبة به من مثقفين إسلاميين محافظين مثل الداعية الأستاذة (هدى الدوسري)، حيث قالت في صحيفة الجزيرة بتاريخ 29 - 12 - 1434هـ (النساء السعوديات من حقهن أن يطالبن بقيادة السيارة - وهذا ليس عيبا..... ولكن ليس عن طريق المظاهرات.....)، كما رأى الأستاذ محمد الكنعان في نفس العدد أن قيادة المرأة للسيارة - وإن لم تكن حقا شرعيا حسب قوله - إلا أنها (حاجة إنسانية). مثل هذا الاعتراف بحق المطالبة بشيء يعتبر حاجة إنسانية وبدون اللجوء إلى التظاهر هو البداية الصحيحة للخطو إلى الأمام، بدلا من اللجوء إلى وضع العربة أمام الحصان بأساليب مثل البحث عن مبررات لوضع القيود على مباح شرعي أو تصوير الموضوع كقضية دينية أو أمنية تهدد السلم الاجتماعي.
وقد أثيرت خلال السنوات القليلة الماضية زوابع من التهويل والتحذير حول قضايا قريبة من هذه القضية تتعلق بتوظيف المرأة في محلات بيع المستلزمات النسائية وفى عمل (الكاشيرات)، لكنها مرت بسلام بالنظر إلى حزم الجهات التنفيذية في ضبط الأمور والتنسيق فيما بينها في تنظيم عملية التطبيق وإلى اقتناع الدولة وأكثر أفراد المجتمع بجدواها. وحين ندعو إلى عدم التهويل فإن ذلك لا يعني التقليل أو عدم الاكتراث بما يبني عليه المعارضون حججهم من محاذير شرعية، بل هي دعوة إلى وزنها في ضوء التصور الواقعي المعاش للحاجة الإنسانية وحق المطالبة بها. وليس بخاف على أحد أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره. فالذي يشارك الناس في حياتهم اليومية العملية ويلمس حاجاتهم المعيشية يختلف في الحكم على الشيء نفسه عن أخيه المنقطع إلى بحثه ودرسه ووعظه، وفي كل خير. وفق تصور واقعي يمكن مراجعة المحاذير الشرعيه التي تثار أمام قيادة المرأة للسيارة على النحو التالي:
1 - (ستضطر إلى خلع الحجاب، فلا يمكن أن تقود وهي محجبة). إن كان المقصود هو الحجاب الكامل، فالأغلب بين النساء الآن هو لبس النقاب أو اللثام، والمرأة لا تحتاج من الوجه في القيادة إلا عينيها، أما عندما تضطر للحديث (مع عسكري المرور مثلا) فتفعل ذلك بدون رفع النقاب.
2 - (اختلاط المرأة برجال المرور - ولا سيما اذا حصل حادث وذهابها إلى مركز الشرطة). إن ذلك لا يختلف كثيرا عن اختلاطها بالأطباء في قسم الإسعاف أو العيادات عندما تضطر لذلك بدون محرم - وكلاهما حال ضرورة. كما أن الأغلبية الساحقة للحوادث المرورية لا تتطلب الذهاب لمركز الشرطة، وإن حصل فإنها يمكن أن تستدعي أحدا من أهلها فورا.
3 - (تعطل السيارة في الطريق سيضطرها إلى طلب مساعدة الرجال، فتكون معرضة للاختلاط المسبب للفتنة). هنا أيضاً يمكنها استدعاء من تشاء وتترك السيارة على جانب الطريق (كما يفعل الرجال أنفسهم أحيانا). والطرق داخل المدن يصعب تصورها خالية يتعرض فيها النساء للاختلاط المسبب للفتنة. أما خارج المدن فالأرجح أن المرأة لا ترغب أصلا في قيادة السيارة خارجا إلا مع مرافق. وفى كل تلك الحالات هل يكون الوضع أفضل مع سائق أجنبي؟
4 - (المرور مزدحم في الشوارع، فكيف إذا سمح للنساء بقيادة السيارات تضاعفت السيارات وتضاعف الخطر والزحام الشديد). هذه وجهة نظر فنية جديرة بالاعتبار. لكن عدد السيارات لن يتضاعف بقيادة المرأة، بل ولن يزيد وإنما قد ينقص، إذا تم ضبط المرور ببعض التنظيمات التي تكررت المطالبة بها، مثل منع استخدام السيارات الرخيصة المتهالكة التي يقودها الآلاف من الوافدين، ورفع سعر البنزين بما يكفى لترشيد حركة التنقل بالسيارة، وتنظيم النقل المدرسي، وتشجيع الطلاب والموظفين على أسلوب المشاركة في السيارات، وغير ذلك من التنظيمات التي تطبق في كثير من دول العالم المتقدم.
5 - (من الأضرار أن المرأة إذا قادت السيارة فإنها ستخرج في أي وقت شاءت من ليل أو نهار وتذهب حيث شاءت بخلاف ما إذا كانت مرتبطة بقيادة وليها ليقود السيارة بها ويصاحبها، أما إذا كان الأمر بيدها فإنها ستكون حيث شاءت وحيثما طلبت فيكون لها مع الأشرار اتصالات وارتباطات - خاصة أن الاتصالات الآن متواصلة، والمرأة ضعيفة تغرى فتذهب). هذا الموقف المتخوف لم يعد يتسق مع الواقع الحاصل. فالمرأة الآن تتعلم وتعمل فهي أكثر نضوجا وقوة من أن (تغرى فتذهب)، وأجدر بالثقة. وكذلك فإن أكثرية من النساء لا يرتبطن بقيادة أوليائهن، بل بقيادة السائق الأجنبي الذي أراح الرجال من عبء توصيل نسائهم للدراسة والعمل والتسوق - ولا سبيل الآن للرجوع إلى الوراء. لذلك فإن السؤال الذي يجب أن يطرح ليس: أيهما أفضل: قيادة المرأة للسيارة أم قيادة وليها لها؛ وإنما هو أيهما أقل وأهون محاذير شرعية: قيادة المرأة للسيارة، أم قيادة سائق أجنبي يصحبها في كل مشوار صباحا ومساء؟ وعلى افتراض أن امرأة ما تريد الارتباط بأحد الأشرار فإن أسهل تغطية لفعلتها هو الذهاب إليه بسيارة يقودها سائق أجنبي يقف مع السيارة في الموقف بينما تذهب هي لغايتها. ولكن لماذا سوء الظن؟
ألا نثق بالطبيبة وهي تذهب لعلاج مرضاها؟
أو بالمحامية التي تترافع في قضية امرأة تطالب بحق من حقوقها؟ أو بالمعلمة التي تريد اللحاق بموعد حصتها الأولى في مدرسة أحد أحياء المدينة؟ ألا تستحق المرأة المتعلمة العاملة فتح خيار ثالث لها في مقابل خيارين، إما الارتباط بمحرم يتأخر عليها أو يؤخر دوامه من أجلها ويخرج أثناءه من أجلها، وإما السائق الأجنبي؟ لا أشك أن تلك المحاذير ليست الوحيدة التي يجب وزنها في ضوء تصور واقعي. ومن ذلك مثلا الخوف من الإيذاء والتحرش. وهذا لا يزول أو يتضاءل إلا بزرع الخوف في نفس من ينوي الأذى أو التحرش، وذلك من خلال تطبيق إجراءات وقوانين صارمة لمكافحة التحرش - كما هو حاصل فعلا في بلدان كثيرة، وكما طالب به أكثر من كاتب في هذه الصحيفة وغيرها.