القهوة والتمر وقراءة كتاب والتفرج على حديقة بيتي الصغيرة، هذا ما أقضي به صباحاتي منذ أن أُحلتُ إلى التقاعد منذ سنواتٍ ثلاث، ومنذ أن رحلت عني رفيقة دربي وروحي وظلي إلى غير رجعة، ثمة ما ينغص علي مزاجي هذا الصباح،
فالغيوم الرمادية الداكنة تلقي بظلالها الكثيف على المدينة، لقد شاهدتها بدقة أثناء عودتي من المسجد، الألوان عندي لا تشعّ ألوانُها بأقصى طاقتها الحيوية، لم أكن فيما سبق أكترث بصباحات باردة ورماديّة، لأنّ توأم روحي كانت تشيع الدفء في كلّ شيء وتعيد خلق الصباحات الرمادية وتحيلها إلى صباحات حالمة دافئة، أما الآن، فصباح كهذا يحفز عندي الهم والغم والكآبة، كم كانت تلك المرأة الحانية تلتصق بي ولا تنفر مني، لا شيء يشبه الحياة التي تتدفق إلى داخلي حين تقترب مني، على العكس تماماً، ثمة وحشة تهاجمني الآن، الهم يقترب مني، والوحدة تقتلني، كل يوم يرحل من عمري هو لبنة في هذه البئر الموحشة بداخلي، يزداد ارتفاع فوهتها يوماً بعد يوم ويزداد عمقها في داخلي، بئر مهجورة، لا شيء يسقط بداخلها، وأنت يا رفيقة دربي وتوأم روحي وعمري، صرت لبنة في بناء هذه البئر، بل أجمل لبنات بئري، يريدونني أن أتزوج كي أقتلعك وأرمي بك في قاع البئر المظلمة، أقتلع من اللبنةَ المضيئة الوحيدة في بئري المظلمة، حين مرضت سنوات طوال، وذبل جسدي، ولازمتني الكآبة، ودثرني الهم، وضاقت بي الحياة، سألتكِ: هل ستنفرين منّي؟ فجاء ردّك مندفعاً حاراً: كيف أنفر منك وأنت عمري؟! كان صوتكِ ممزوجاً بالاعتذار، وكأنك كنتِ من تسبب في مرضي، أو كأنك كنت تعتذرين لأنك لم تستطيعين في ما مضى أن تقنعيني بأنّك لا تتركينني في حال من الأحوال، وها قد غادرت بلا استئذان وإلى غير رجعة، وهذا أنا في هذا الصباح الرمادي البارد وحيداً فريداً، يمر بي أولاد الحارة ورجالها يلقون علي التحية، وأنا سادر في حزني وهمي ويتمي، لا أحد منهم ينطقُ بأكثر من التحية ثم ينطلقون يجوبون طرقات الحياة، لقد ذهبت أنت، وبقيت أنا، وابنتنا المتزوجة والتي تزورني من حين لآخر، والتي عيناها تشبهان عينيك، أتذكركِ كلما نظرت إلى عينيها.