الوعي المجتمعي والوطني الصادق هو الذي يؤهل لثقافة تروي شجرة الدولة وتجعل أكلها ثابتاً وفرعها في السماء، وبدون ذلك الوعي وتلك الثقافة تبقى الشجرة رهينة الرياح
وتقلبات الجو، فلا يكفي الإتيان بدستور يكتب في المئات من الصفحات ويحرك الناس لمناقشته والمصادقة عليه، ولا يكفي خلق انتخابات محلية وتشريعية تصرف عليها الملايين وتجند لها الطاقات إذا لم تكن هناك ثقافة ووعي مجتمعيان لدى كل الناس، وهذا هو الذي يخلق المناخ السياسي الملائم لعمل كل المؤسسات في شفافية تامة ومردودية أكبر ويربط المسؤولية بالمحاسبة، فالمناخ السياسي في دول كتونس وليبيا إما أن يشجع على إشاعة فكرة الفساد والمحسوبية، وإما أن يعزز المساءلة وما يرتبط بها من قيم النزاهة والمسؤولية، فإذا بقيت الثقافة الحقيقية منعدمة فلا مناص من فشل التجربة السياسية وستبقى البيئة خصبة لنمو قيم التحلل والهدر وانعدام المسؤولية وعدم حرمة المال العام، وهذه الثقافة يجب أن تعمم على الوزير ورئيس المؤسسة العمومية وصولاً إلى الموظف البسيط في الدولة الذي يعي في قرارة نفسه أن الوظيفة التي هو مؤتمن عليها ليست بوظيفة في ضيعته أو ضيعة والده يفعل فيهما ما يشاء، وإنما هي أمانة ومسؤولية مستخلف فيها.
والفساد كما يكتب أحمد ناصر بآلياته وآثاره الانتشارية يولد مضاعفات تؤثر في نسيج المجتمعات ومكوناتها وسلوكيات الأفراد وطرق أداء الاقتصاد، وأخطر من كل ذلك إعادة صياغة نظام القيم. هذا وقد وضع البنك الدولي تعريفا للنشاط الذي يندرج تحته تعريف الفساد بما يلي: إساءة استعمال الوظيفة العامة للكسب الخاص، فالفساد يحدث عادة عندما يقوم موظف بقبول رشوة، أو طلبها، أو ابتزازها، لتسهيل عقد أو إجراء طرح لمناقصة عامة كما يتم عندما يقوم وكلاء أو وسطاء بتقديم رشاوى للاستفادة من سياسات أو إجراءات عامة للتغلب على منافسين، وتحقيق أرباح خارج إطار القوانين المرعية كما يمكن للفساد أن يحدث عن طريق استغلال الوظيفة العامة دون اللجوء إلى الرشوة، وذلك بتعيين الأقارب أو سرقة أموال الدولة مباشرة. وهذا الفساد لضيق نطاقه يمكن تسميته (بالفساد الصغير) وهو يختلف عن الفساد الكبير المرتبط بالصفقات الكبرى في عالم المقاولات وتجارة السلاح والحصول على التوكيلات التجارية للشركات الدولية الكبرى المتعددة الجنسية. وظهر هذا الفساد عادة على المستويين السياسي والبيروقراطي، ويرتبط الفساد السياسي بالفساد المالي حين تتحول الوظائف البيروقراطية العليا إلى أدوات للإثراء الشخصي المتصاعد.
وعرّفت اتفاقية الأمم المتحدة بشأن الفساد التي تبنتها الجمعية العامة للأمم المتحدة، التي تم التوقيع عليها في المكسيك في ديسمبر/ كانون الأول من العام 2003، الفساد بأنه (أعمال جرمية تعبر عن سلوك فاسد) وتركت الاتفاقية للدول الأعضاء إمكان معالجة أشكال مختلفة من الفساد قد تنشأ مستقبلاً على أساس أن مفهوم الفساد فيه من المرونة ما يجعله قابلا للتكيف بين مجتمع وآخر.
كما أن هناك من يحدد مجموعة من صور الفساد وأشكاله على النحو التالي:
1- استخدام المنصب العام من قبل بعض الشخصيات المتنفذة (وزراء، وكلاء، مستشارون... إلخ) للحصول على امتياز خاصة كالاحتكارات المتعلقة بالخدمات العامة ومشاريع البنية التحتية، والوكالات التجارية للمواد الأساسية، أو الحصول من آخرين على العمولات مقابل تسهيل حصولهم على هذه الامتيازات دون وجه حق.
2- غياب النزاهة والشفافية في طرح العطاءات الحكومية، كإحالة عطاءات بطرق غير شرعية على شركات ذات علاقة بالمسؤولين، أو أفراد عائلاتهم، أو إحالة العطاءات الحكومية على شركات معينة دون اتباع الإجراءات القانونية المطلوبة كالإعلان عنها أو فتح المجال للتنافس الحقيقي عليها أو ضمان تكافؤ الفرص للجميع.
3- المحسوبية والمحاباة والوساطة في التعيينات الحكومية، كقيام بعض المسؤولين بتعيين أشخاص في الوظائف العامة على أسس القرابة أو الولاء السياسي أو بهدف تعزيز نفوذهم الشخصي، وذلك على حساب الكفاءة والمساواة في الفرص، أو قيام بعض المسؤولين بتوزيع المساعدات العينية أو المبالغ المالية من المال العام على فئات معينة أو مناطق جغرافية محددة على أسس عشائرية أو مناطقية أو بهدف تحقيق مكاسب سياسية.
4- تبذير المال العام من خلال منح تراخيص أو إعفاءات ضريبية أو جمركية لأشخاص أو شركات بدون وجه حق بهدف استرضاء بعض الشخصيات في المجتمع أو تحقيق مصالح متبادلة أو مقابل رشوة، مما يؤدي إلى حرمان الخزينة العامة من أهم مواردها.
5- استغلال المنصب العام لتحقيق مصالح سياسية مثل تزوير الانتخابات أو شراء أصوات الناخبين، أو التمويل غير المشروع للحملات الانتخابية، أو التأثير على قرارات المحاكم، أو شراء ولاء الأفراد والجماعات وفي المغرب هناك مثلاً المجلس الأعلى للحسابات، على شاكلة فرنسا وكل الدول الأوروبية وأمريكا، وهذه المؤسسة هي أعلى مؤسسة دستورية لمراقبة المال العام، وحسب الفصل 144 من الدستور فإنه يمارس اختصاصات قضائية في مجال التدقيق والبت في حسابات المحاسبين العموميين والمحاسبين بحكم الواقع، كما تناط به مهمة مراقبة الأجهزة العمومية واستعمال المال العام، كما يساعد البرلمان في المجالات المتعلقة بالرقابة على المال العام، ويقدم مساعدته للحكومة والهيئات القضائية في الميادين التي تدخل في نطاق اختصاصاته بمقتضى القانون، وقد أصبح المجلس الأعلى للحسابات مؤسسة دستورية وأضحت له مكانة رائدة في الكشف عن الهفوات والتلاعبات والاختلاسات وسوء التسيير للمالية العمومية، كما أن للمجلس الأعلى للحسابات مهام أخرى تتعلق بمراقبة وتتبع التصريحات الإجبارية بالممتلكات وتدقيق حسابات الأحزاب السياسية ونفقات العمليات الانتخابية، وفضلاً عن ذلك، وفي إطار سياسة اللامركزية، نص الدستور المغربي على إحداث المجالس الجهوية للحسابات المكلفة بمراقبة حسابات الجماعات المحلية وهيئاتها وكيفية قيامها بتدبير شؤونها.
ويصدر المجلس الأعلى للحسابات تقارير مطولة تسيل الكثير من المداد في الصحافة ، وتقف عند الاختلالات التي يمكن تكييف بعضها على أنها جرائم مالية وأخرى على أنها جزء من أخطاء الإدارة والحكامة الجيدة والتسيير... فالفساد ظاهرة عالمية وعربية بالخصوص، والأرقام التي تعطيها المؤسسات الدولية مخيفة وتشير إلى التدني في تسيير قطاعات معنية بالمحافظة على المال العام واستثماره في خدمة الصالح العام وحماية أموال دافعي الضرائب، ولا يحتاج صاحب الفساد إلى جهد كبير للاغتناء، وهناك مثل مغربي يقول: “المال السايب يعلم السرقة” لأنه بدون ثقافة ووعي بالمسؤولية ودون ميكانيزمات ومؤسسات تعنى بالمراقبة القبْلية والبعدية يعم الفساد الإدارة والمؤسسات العمومية وينخر أركانها وقواعدها.
إن الفساد يحتاج في الدول العربية إلى مؤسسات كالمجالس العليا للحسابات وإلى قضاء مستقل ونافذ، والفساد يأتي على الأخضر واليابس، ويأكل موارد البلاد التي تذهب سدى، ويجب خلق ثقافة جديدة تربط المسؤولية بالمحاسبة وتخلق منظوراً جديداً للمال العام وللإدارة والحكامة وهي الركائز غير المباشرة لمجتمع سياسي ذي صحة جيدة وهي طبعا التي تزرع الثقة بين الأفراد والدولة.... والثقة هي الباروميتر التي بإمكانك أن تحكم بها على نوعية السلم الاجتماعي والاقتصادي في بلد من البلدان وذلك عن طريق علاقة الحاكم بالمحكوم والمستثمرين بالمؤسسات، وهي التي لوحدها تسهل تجاوز الحدث العابر وغبر أغوار حركية التاريخ الفاعلة في العمق لتتجاوز الدول القشرة السطحية لمجريات الأحداث السياسية الجهوية والإقليمية والدولية المتقلبة، وتمكن من خلق أدوات السلم وميكانيزمات الأمن في ساحة دولية معقدة غالبا ما تكون للدول فيها مصالح لا أصدقاء.