لم ينس التاريخ الجمعي للأمة العربية.. داخل الجزيرة وخارجها وبامتداد الوطن العربي كله: (سوق عكاظ) الثقافي الاقتصادي الموسمي الجمعي، الذي كانت تعقد دورته في شهر ذي القعدة من كل عام فوق تلك الأرض البراح بين واديي (سرب) و(الأخيضر) عند (الأثيداء) في مقره اليوم..
حيث كانت تتلاقى فيه قبائل العرب، لتتبادل المنافع والمعارف والأخبار.. ولتستمع فيه إلى أعظم روائع الشعر العربي وأخلده. ومع أنه توقف منذ عام 129هـ مع سقوط الدولة الأموية، كما يقول المؤرخون.. إلا أن حضوره في ذاكرة المثقفين والأدباء والشعراء.. ظل حياً نابضاً.. جيلاً بعد جيل وطوال الألف والثلاثمائة عاماً المنصرمة، من خلال استرجاع قصصه وأحداثه وحكاياته ومواقفه وطرائف رموزه ونجومه.. وأولهم وأشهرهم الشاعر (الحَكَم) النابغة الذبياني، الذي كانت تنصب له (خيمة) من الجلد في قلب السوق.. ليحتكم إليه الشعراء، وقد ذهب إليه - كما تقول إحدى روايات السوق - شاعران. كل منهما يدعي أنه أشعر من صاحبه!! فقال النابغة لأحدهما: هات.. ما عندك..؟
فقال: شعراً رديئاً.. تمالك (النابغة) نفسه معه.. حتى انتهى، ليقول له: إن صاحبك.. أشعر منك!!
فاحتج الشاعر قائلاً: ولكنك لم تستمع إلى شعره.. بعد..؟
فقال (الذبياني): نعم. ولكن لا يوجد أردأ من هذا الشعر الذي سمعته منك! ولذلك حكمت له..!
ولست أدري.. ما صحة هذه الرواية من عدمها؟ إلا أنها بقيت من متداولات (السوق).. وحكاياته الأطرف والأجمل.. بين الشعراء والمثقفين وعلى ألسنتهم، ربما لا توازيها أو تتفوق عليها إلا قصة الشاعر (دوقلة المنبجي) وقصيدته الأعظم والأروع: (هل بالطلول لسائل رد- أم هل لها بطول تكلم عهد).. التي جاء بها لينشدها في (السوق)، فعلم بها أحد المتشاعرين.. حتى تمكن من سرقتها.. والإسراع بإنشادها - قبل أن ينشدها صاحبها - لكن أحد أبيات القصيدة.. كشفته - كما تقول الرواية - عندما قال شاعرها الحقيقي دوقلة (إن تتهمي.. فتهامة أرضي/ وأن تنجدي.. فالهوى نجد)، ولم يكن سارق القصيدة ومنشدها من تهامة أو من نجد!! ومع ذلك بقي اسم القصيدة (اليتيمة).. ربما لأنه لم يُعرف لها صاحب أو (أب) لحظة اكتشاف سرقتها وسماعها لأول مرة.. وربما لتفردها فكرة واستهلالاً وجمالاً باذخاً في قوامها..!!
* * *
على أي حال.. وكما توقف انعقاد (السوق) مع سقوط الدولة الأموية كما يقول تاريخه.. يلوح أن البحث عنه، وعن إحيائه.. عاد مع سقوط الدولة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى واستقلال الحكومات العربية، وإلحاح المثقفين العرب في الخارج والداخل الخارجين من نيِّر (التتريك) عن ضرورة البحث عن (موقعه) وعن أهمية إحيائه.. كأول (مهرجان) للشعر والفكر العربي تعرفه الدنيا قاطبة، ليتم الإعلان عن هذا الإحياء ولأول مرة عبر جهود رسمية ولجان تاريخية وجغرافية وأكاديمية عام 1426هـ - 2004م.. بعد ألف وثلاثمائة عام تقريباً على يد هيئة التنشيط السياحي بمحافظة الطائف ومحافظها رئيس الهيئة الأستاذ فهد بن عبدالعزيز بن معمر، ليصدق قول دار المُحتَرف للنشر عن (سوق عكاظ) بأنها (عنقاء الجزيرة العربية).. التي عادت إليها الحياة من رماد الأيام، كما تعود الحياة لـ (طائر العنقاء) الأسطوري.. من رماده مجدداً بعد احتراقه وموته! على أن يتم الإعداد لافتتاحه خلال شهور عام 1427هـ بدعم أمير المنطقة آنذاك الأمير عبدالمجيد بن عبدالعزيز، وإسهامات رجال الأعمال والأدباء والمثقفين من داخل محافظة الطائف ومن خارجها، حيث أسهمت الدكتورة هند باغفار في الإشراف - مع آخرين - على برنامج حفل الافتتاح الأول الذي قُدِّر له أن يعقد في عام 1428هـ، ولكن وقبل شهرين من موعد الافتتاح.. انتقل الأمير عبدالمجيد إلى رحمة الله، وتم تعيين الأمير خالد الفيصل خلفاً له.. وهو المثقف الشاعر صاحب مجلة (الفيصل) ومؤسسة (الفكر العربي).. القادم من (أبها) عروس الجنوب بعد تجربة طويلة ناجحة في تحويلها إلى مدينة سياحية صيفية جاذبة، تنافس المصيف الرسمي (الطائف).. بإقامته دار (المفتاحة) للفنون التشكيلية، و(مسرح) أبها للفنون المسرحية والتراثية والغنائية.. الذي شاء حظي السعيد أن أشهد إحدى لياليه ذات صيف.. وفنان العرب (محمد عبده) يتألق فوق خشبته شدواً وغناءً.. كأنه السحر، ليجد أمامه في محافظة الطائف (لجنة التنشيط السياحي)، وهي تدير اجتماعها في (تنشيط البرامج الفنية في الصيف وتكثيفها)، كما روى المؤرخ (الدكتور جريدي المنصور) في كتاب (سوق عكاظ) الصادر عن دار المحتَرف.. حيث عقد سموه اجتماعاً آخر، فكان (من الأمور التي عرضت علينا في ذلك الاجتماع: تطوير منطقة الهدا والشفا، وموضوع سوق عكاظ)!! ليقول الأمير عنها - وكما ذكر الدكتور الجريدي -.. بـ (أنها “كنز مدفون”، وأنها “ماركةعالمية”، و”علامة فارقة” في تاريخ الأدب والثقافة العربية).. وقد كانت كل ذلك فعلاً، وأكثر.. ليقود سموه مركبة الإعداد لـ (افتتاح) أول دورة للسوق عام 1428هـ بحسمه وحزمه وحبه لـ(الطائف) وسوقها التاريخي (عكاظ)، الذي غلبت شاعريته وشعراؤه.. على كل شيء فيه حتى غدا جزءاً من ضمير الأمة وذاكرتها ووجدانها.
* * *
لقد كان من حسن حظي أن أتابع بعض دوراته الأول.. والتي كانت تتذكرني فيها (اللجنة المنظمة) عاماً وتنسى عاماً، مغمض العينين عن تواضع دوراته الأول.. مُكبِراً إنجاز عقده فوق كل اعتبار.. حتى عن كِبْر.. ذلك الهمس بفتح أبواب (السوق) للشعر الشعبي وشعرائه.. لينشدوا على أرض شدا فوقها شعراء المعلقات والمذهبات ومن واكبهم، من أساطين الشعر العربي الأخاذ، لأسعد أيما سعادة بحضور حفل افتتاح السوق في دورته السادسة - السابقة - فأرى على مسرح حفل افتتاحه شاعر شعراء (عكاظ) وصاحب أول المعلقات: (امرؤ القيس).. بحياته وأحزانه وحيرته بعد موت أبيه وفقد (ملكه)، وسعيه لإمبراطور الروم طلباً لمساعدته.. وهو يهوِّن على رفيق دربه وعثاء الطريق
(بكى صاحبي لَمَّا رأى الدرب دونه/
وأيقن أنا لاحقان بقيصرا!.
فقلت له لا تبك عينك/
إنما نروم ملكاً أو نموت فنعذرا)..
إلى أن عاد خائباً ليموت في رداء الإمبراطور المسموم الذي أهداه له عند مغادرته!!
لقد كان اختيار (السوق) لتقديم حياة شاعر المعلقات الأول (امرؤ القيس).. موفقاً وإلى أبعد حدود التوفيق، وهو ما جعلني أتعشم بأن يصبح ذلك (تقليداً) من تقاليد (السوق) في تقديم حيوات أصحاب المعلقات السبع أو التسع أو العشر.. على مسرح السوق مع دوراته في كل عام، وكما حدث هذا العام مصادفة - أو تخطيطاً - بتقديم حياة شاعر المعلقات الرابع (الأعشى القيسي).. لتكون إلى جانب نصوصها التي وثقها وشرحها من قبل الأستاذ الدكتور عبدالعزيز بن محمد الفيصل.. في خدمة الأجيال الجديدة، لتعرف من هي..؟ وما هي..؟ وكيف كانت هي..؟
* * *
مع الدورة السابقة لـ(السوق).. والتي انطوت قبل شهر أو يزيد.. كنت أتلقى (دعوتين) لحضورهما: الأولى رسمية لصيقة بموعد الافتتاح - على الفاكس - من (الإمارة) لحضور حفل الافتتاح مساء يوم الثلاثاء الرابع من شهر ذي القعدة الماضي؟ والثانية مبكرة - على الهاتف - من أحد أعضاء اللجنة المنظمة.. مشفوعاً بسؤال عن قبولي المشاركة في إحدى ندوات السوق.. وهي الخاصة بـ (تجارب الكتاب)؟
فشكرته على دعوته.. مع ترحيبي بالمشاركة في (الندوة) المقترحة، على أن نبحث في تفاصيلها (متى، ومن، وأين، وكيف).. فيما بعد، ولم يأت هذا الـ (فيما بعد).. أبداً!! إلى أن وجدت نفسي في الليلة السابقة للافتتاح في عربة ورفقة الصديق الدكتور عبدالله دحلان الكاتب الاقتصادي المعروف.. ونحن في الطريق إلى (الهدا) استجابة لدعوة مؤجلة.. لـ (العشاء) تسبق ليلة افتتاح (السوق) كان قد قدمها لكلينا الأستاذ الدكتور سهيل قاضي عضو مجلس الشورى فمدير جامعة أم القرى الأسبق.. عند افتتاح الدورة السادسة لـ (السوق)، ولم نتمكن من تلبيتها نظراً لضيق الوقت.. وقد كان يصح تأجيلها ثانية للعام التالي، إلا أن الدكتور سهيل.. كان قد أعد كل شيء.. بل وهاتف مدعوييه إليها مؤكداً قيامها، فصعَّب أمر تأجيلها في ذات اليوم على الصديق الدكتور عبدالله دحلان.. رغم وفاة إحدى شقيقاته وذهابه للمشاركة في دفنها، وتلقي عزاءها في مقبرة المعلاة.. وهو ما كان يؤمن له عذراً شرعياً في طلب تأجيل الدعوة، ولكن حرصه على خواطر أصدقائه، ووفائه لهم.. ألزمه - وألزمني معه - بالذهاب إلى منزل الدكتور القاضي في تلك الليلة الدامعة.
في طريق صعودنا للهدا.. كنت أتلقى اتصالاً مشكوراً - على جوالي - من أحد أعضاء اللجنة.. وهو يسألني: أين أنا..؟
فأخبرته: بأني في طريق الهدا.. فاطمأن لـ(إجابتي)، وهو يحدثني عن حجز الفندق.. الذي سأبيت به، لأجيبه - بكل ثقة وبراءة - بأن ترتيبات مبيتنا جميعاً.. قد تولاها مكتب الدكتور الدحلان، لتقف بنا العربة.. ونترجل للسلام على الدكتور القاضي وصحبه.. وندلف إلى شرفته الجميلة المطلة على (وادي محرم) والطائف من خلفها، وليتقاطر المدعوون.. ويبدأ الحوار عن مجلس (الشورى) وأيامه وذكرياته، وقد كان معظم حضور ذلك العشاء.. من أعضاء (المجلس) السابقين الذين جمعتهم زمالته.. وليتولى الدكتور سهيل إغراقنا بكرمه ولطفه وطعامه وشرابه، حتى إذا انتهى عشاؤنا.. وقد أوشك الليل على الانتصاف، كنت أسأل صديقي الدكتور الدحلان.. قلقاً: والآن إلى أين..؟
قال: إلى (جدة).. حتى أشارك يوم غد في أول أيام عزاء شقيقتي..؟ ورغم عدم توقعي لـ(إجابته).. إلا أنني قدرت وجاهة ظرفه، فكتمت اعتراضي على تغير برنامجنا في اللحظة ما بعد الأخيرة.. وقد أدرك ذلك ليقول لي: إن حجزنا في الفندق.. ما زال قائماً، وبإمكانك البقاء لحضور حفل الافتتاح، فلم أجد في صداقتي له.. ما يجعلني أقدم حضور حفل افتتاح السوق على واجب مشاركتي له في اليوم الأول من أيام عزائه في شقيقته.. لأقول له قولة الفقهاء: الفرض - يا عزيزي - يسبق السنة شرعاً. وهكذا كان.. لتأخذنا عربتنا إلى جدة.
إلا أنني تلقيت مفاجأة - من النوع الثقيل - في مساء يوم الجمعة السابع من ذي القعدة.. عند مغادرتي قاعة جمعية الثقافة والفنون بعد مشاركتي في حفل تدشين كتاب الأستاذ عبدالله أبكر عن (الموشحات والصهبة) التي شهدتها، ليقول لي أحد شباب حضورها: نراك غداً.. في الطائف إن شاء الله.. بـ(مشاركتك) المنتظرة في ندوة (تجارب الكتاب) التي سيشاركك فيها الأستاذان (جبير المليحان) و(عمرو العامري).؟
لأسأله بدوري: أهي غداً..؟
قال: نعم.. ألا تدري أنها غداً السبت..؟!
قلت: لا أدري، ولم أعلم بموعدها إلا الآن.. ومنك، إنني كشريكي فيها الأستاذ العامري وروايته الجميلة (الأدميرال.. لا يجد من يخاطبه).. إلا أن (أدميرالي).. لم يجد من يخبره..!
* * *
هذه هي حكاية تغيبي عن (ندوة تجارب الكتاب).. أقدمها مع الشكر والتقدير لأخي الكاتب الشاب الأستاذ سعد بن سعيد الرفاعي الذي نشر في زاويته (حرف زائد) بصحيفة المدينة في الخامس والعشرين من الشهر الماضي مقالاً تساؤلياً عن غيابي عن تلك الندوة بعنوان شديد الجاذبية والرشاقة (العكاظيون يتساءلون)؟!
ولإعجابي بـ(المقال) عنواناً ومتناً.. كانت هذه السياحة حول سوق عكاظ تاريخاً وبعثاً، آملاً أن يعيد (السوق) لـ(الطائف) أنسه وبهجته.. التي جعلته يحمل في ماضي الأيام - عن جدارة - اسم (الطائف المأنوس).