محزنٌ ومُخجل ومُعيب ما مرت به شوارع وأنفاق مدينة الرياض مساء السبت الماضي بعد موجة الأمطار الأخيرة. والسؤال الذي يُؤرق أهل الرياض: ماذا ستكون الأوضاع إذا استمرت الأمطار بنفس معدلاتها مُتواصلة ليومين أو ثلاثة؟
لا يمكن أن يكون هناك (خبصة) بهذا الشكل إلا ويكون هناك إما مُخطئون أو مهملون أو ربما أبعد من ذلك؛ وأياً كان السبب فإن هذه الأسباب والبواعث في النهاية تُصنف على أنها (فساد)، سواء كان ذلك من (المصمم) الذي أخفق في متطلبات مواصفات الطريق أو النفق، أو المقاول الذي نَفّذ العمل بلا مواصفات تتواكب مع الظروف المناخية المحتملة، والسببان تتحملهما في الدرجة الأولى الجهة المشرفة على التصميم، أو الرقابة على التنفيذ، وهي الجهة الحكومية.
الأنفاق المرورية - مثلاً - بقدر ما تُسهل عملية انسياب وتدفق العربات في الطرق الرئيسة في المدينة وتحل الاختناقات المرورية، فإنها قد تتحول إلى (مصيدة مميتة) إذا لم تُصمم ويُراعى في التصاميم الفنية احتمالية هطول الأمطار بكميات كبيرة. وهذا ما حصل تماماً ليس في نفق أو اثنين من أنفاق مدينة الرياض، وإنما في عدد كبير منها، ما يجعل القضية ليست عارضة وغير متوقعة وإنما (بُنيوية)؛ بمعنى أن (الجهة الحكومية) التي تشرف على تصاميم هذه الأنفاق أو على تنفيذها أو على صيانتها بعد تشغيلها تُعاني من خلل في هيكليتها الإدارية و(ثقوب) نفذ منها الفساد والمفسدون؛ وهذا جعل ما تُنفذه من مشاريع ينتهي إلى هذه الأوضاع المخجلة والمعيبة.
هناك عبارة تقول: (من أمن العقاب أساء الأدب)؛ فإذ كانت المشكلة من المصمم الذي أخفق في التصاميم الفنية والتقيّد بمتطلبات الأحوال المناخية فأين رقابة الجهة الحكومية ابتداء؟.. وإذا كان السبب المقاول الذي أخفق في التنفيذ والتقيّد بالمواصفات الفنية فأين - أيضاً -الجهة الحكومية التي لم تُراقب تقيّد المقاول بتنفيذ المواصفات؟.. وإذا كان السبب إهمالاً في الصيانة بعد التشغيل فإن الجهة الحكومية هي السبب كذلك، فلماذا (سكتت) عن قصور وتخلف مقاول الصيانة عن أداء مهامه؟
مما تقدم يمكن القول إن (الجهات الحكومية) التي تضطلع بتنفيذ المشاريع التنموية إذا صلحت وانضبطت واتخذت (الأمانة) منهجاً لا تحيد عنه فإن انضباطها ينعكس بالضرورة على سوق المقاولين، فيخرج من السوق المقاول السيئ، ويَبقى المقاول الجيد، والنتيجة تكون (منظومة من المقاولين) الوطنيين المحترفين والمنضبطين الذين تتكرس لديهم مع الوقت الخبرة والتنظيم والقدرة على الوفاء بالتزاماتهم بأمانة وعلى أحسن وجه.. والعكس صحيح؛ فإذا (فسدت) فسد الجميع: المقاول الجيد يضطر حينها لأن يواكب الفساد كي يبقى (فيبزوط) ثم ينضم مع الزمن إلى زمرة الفاسدين. والمقاول الفاسد يتحول إلى (أسوةٍ) سيئة لغيره، الصالح والطالح معاً، ويصبح هدفه أن يتحول إلى (هامور) يلتهم ما أمامه من مشاريع دون تمييز، ودون حدود، ودون اكتراث بإمكاناته وقدراته الفنية؛ فتجربته وخبرته وتاريخه علّمته أنَّ ثمة (حيل) وسُبل مُجربة سينتهجها ويتحايل على الجميع؛ على المواصفات الفنية فيُخل بالتزامه بها؛ وعلى المشرف على التنفيذ فيلتف عليه ويَنفذ من رقابته، والنتيجة أن (يسقط) المشروع عند أول اختبار، ويطفوا على السطح ما كان يُحاك خلف الكواليس؛ فلا دخان دونما نار، ولا فساد دونما فاسد ومُفسد.
خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز -حفظه الله- في تلمسه الجاد والمعروف والمشهور عنه للإصلاح (اضطر) - أمد الله في عمره - مرات عديدة إلى أن يُوكِلَ لشركة (أرامكو) مسؤولية الإشراف على تصميم وتنفيذ بعض المشاريع الكبرى، لأنه وجد أنها هي المؤسسة الحكومية الوحيدة القادرة (بحرفية) على تنفيذ المشاريع الكبرى (بأمانة)، ودونما (بزوطة)، وبتكاليف لا يكتنفها القول المتداول والمشهور (شد لي واقطع لك).. أن يلجأ رجل الإصلاح الأول في بلادنا إلى مُنشأة حكومية (بترولية)، ليس هذا مجال تخصصها الأول، لتكون أداته الإصلاحية يعني بصراحة فشل منشآت الدولة الأخرى (المتخصصة) لأن تُواكب طموحاته الإصلاحية حفظه الله.
وختاماً أقول: أنفاقنا وطرقنا التي تحولت إلى (مصيدات مميتة) عند هطول الأمطار تعني أن ثمة فساد ومُفسدين جاء المطر ليشير إليهم بمنتهى الوضوح، إذا لم يحُاسبوا ويُعاقبوا ويُشهّر بهم فلوموا أنفسكم لا المطر.
إلى اللقاء.