أرشح هيئة مكافحة الفساد “نزاهة” في أن تتبوأ المركز الثاني بعد هيئة الأمر بالمعروف في قائمة الأكثر تناولاً في الصحف المحلية، فقد شغلت المجتمع بأخبارها، لكنها مع ذلك لم تصل أعمالها إلى مستوى الرضا، ربما لأن المتوقع منها كان أكبر بكثير مما تحقق، وسأقوم في هذا التواصل بدور المدافع عن “نزاهة” وعن رئيسها الفاضل الأستاذ محمد الشريف، والذي وصل به الحال إلى أن يعلق على أحداث المطر الأخير، وما أحدثه الفساد الإداري من كوارث في مشاريع الأنفاق وتصريف السيول في المدينة، ولعله بذلك التصريح كان يستبق الأحداث، فقد كان خلال السنوات الجهة التي يعلق عليها المجتمع بمختلف أطيافه الآمال من أجل تنظيف البلاد من آثار الفساد المدمرة بالاقتصاد ومدخرات الوطن وثرواته.
لكن الأيام أثبتت أن الهيئة لا تملك الصلاحيات من أجل مكافحة الفساد، بعد أن رفعت الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد “نزاهة” عددًا من الخطابات والتقارير إلى مقام خادم الحرمين الشريفين على عدم تجاوب الوزارات والمؤسسات مع “نزاهة”، حينما تقف على الفساد داخلها ورفضها التجاوب..، وفي جانب آخر تلقت “ نزاهة” أيضاً أول دعوى قضائية ضدها من مواطن، متهمها بتجاهل متابعة فساد إداري في 3 جهات حكومية، وغابت (نزاهة) عن حضور أول جلسة في القضية التي تنظرها المحكمة الإدارية بالرياض، ليكتمل المشهد الأخير في فصول المهمة المستحيلة لمكافحة الفساد في الوطن.
يعتقد بعض الرأسماليين أن الجشع حافز إنساني، وأنه يزيد من الإنتاج، ويشعل المنافسة في الاقتصاد، لكن ذلك يغدو صحيحاً، إذا كان يحتكم إلى القانون والتشريعات التي تمنع استغلال النفوذ من أجل تكوين الثروات، لكن حين يظهر الجشع في المجتمع متحرراً من سلطة القانون فلن تكفيه الطبيعة بأكملها، ولن يتوقف عن التهام الأخضر واليابس، وفي ذلك تكمن حقيقة الفساد، والتي لن تتوقف عجلته مادام غريزتا الطمع والجشع طليقتين، ولا يحكمهما قانون وتشريع أعلى من مختلف السلطات.
الجشع غريزة إنسانية، وتشكل إحدى أهم سمات الإنسان، وتعتبر المحرض الأكبر في استغلال الفرص لإشباع رغبات الإنسان البدائية إذا حانت له الفرصة، فالجميع وإن اختلفت نسب الجشع في عروقهم يودون أن يصلوا إلى الرقم الذي يُشعرهم بالأمان المعيشي، لكن ذلك الرقم يختلف من شخص إلى آخر حسب نسب قربه وبعده في مراتب النفوذ، وقد نصاب بالدهشة عندما نسمع عن قصص التملك الجشع والرغبة الجنونية في امتلاك كل شيء عند البعض، وإن ظهر أمام الناس في هيئة العفة والنزاهة ويشترك في ذلك مختلف فئات المجتمع وطبقاتهم.
كذلك يعد تعدد السلطات وتقاطعها وتضادها أحياناً أحد أهم العوامل التي تجعل من المهمة شبه مستحيلة، وربما لهذا السبب لا يكترث المسؤول لنداءات نزاهة، عندما تتقاطع مصالحه مع إحدى تلك السلطات الأكثر نفوذاً من الهيئة، وهو ما يعني أن التنظيم الإداري الحالي يسمح بتداخل السلطات وتقاطع مصالحها الخاصة مع الإدارات التنفيذية في هيكلها الحالي، بسبب غياب هيئات رقابية تمثل المجتمع، وتقوم بالفحص والرقابة بصفة مستقلة، وتخضع الجهات التنفيذية لرقابتها المباشرة، وفي نفس الوقت لا تسمح على الإطلاق بالتداخل مع مهامها، وأن تكون أعمالها خاضعة لقوانين الشفافية والإعلانات الدورية عن نتائج تحقيقاتها الرقابية مع الجهات التنفيذية.
لذلك رحمة بنزاهة يجب عدم تحميلها العبء الثقيل، فهي غير قادرة في ظل الظروف الحالية على إكمال المهمة شبه المستحيلة، لذلك نتمنى أن تبدأ أولاً رحلة التفتيش عن ظواهر الطمع والجشع الطليقة في المجتمع، ومن ثم إخضاعها للقانون، وترشيد غرائزها في خدمة الوطن من خلال الوسائل المشروعة، وقد نحتاج أكثر من أي زمن مضى إلى تطوير التنظيم الإداري الحالي، والذي قد يسمح للمسؤول في أن يقطع اتصالاته مع هيئة مكافحة الفساد ومع الإعلام، ومع كافة أطياف المجتمع إذ شعر أنه وصل إلى مرحلة التغريد خارج السرب.