كان للمسلمين في يوم ما امبراطورية وحضارة متميزة بقوتها وعلميتها نسبياً عمن جاورها من الإمبراطوريات. وحضارة المسلمين وإن لم تكن ببدع من الحضارات العالمية، فقد سبقها حضارات عظيمة، كما زامنها كذلك حضارات عظيمة، إلا أن غالب المسلمين يعتقد توهما بأن الحضارة الإسلامية كانت فريدة من نوعها ولم يسبق لأي أمة قبلهم، ان تحتضن حضارة كحضارة المسلمين. ويربط المسلمون بين حضارتهم الماضية وبين الخلافة الإسلامية، رغم أن الخلافة الإسلامية من بعد منتصف القرن الثاني للهجرة- أي تقريباً من بعد عهد المأمون- ما كانت غالباً الا سيفا مسلطا على الفكر وعلى علماء العلوم الدنيوية. كما أن جميع علماء الحضارة العلمية الإسلامية لم يكونوا مسلمين أصلا، أو يكونون مسلمين قد اتهموا بالمروق من الدين أو بالفسوق أو الإلحاد. فهناك- في اعتقادي- خلط في دور الاسلام في قيام الامبراطورية الاسلامية. فالإسلام لم يكن سببا في تطور العلوم الدنيوية، بل كان سببا في إيجاد عصبة تلتف حولها الشعوب بمختلف أعراقها وأجناسها ولهجاتها، مما أثرى ثقافتها وقوى شوكتها.
وحديث العالم عموما اليوم عن مفهوم ما، تلتقي فيه الاديان وتجتمع حوله ليكف بعضها عن قتال بعض، هو موجه في الحقيقة تصريحا وتلميحا وتضمينا نحو المسلمين والإسلام خاصة. فالمسلمون خاصة من بين الأمم جميعها اليوم، يخرج منهم منظمات وأحزاب وأفراد من هنا وهناك، تقوم بعمليات جهادية دينية ضد حكوماتهم وضد غيرهم من الامم، تحت ضغط الإحباط من التناقض بين وهم العظمة الذي ربوا عليه وبين الواقع المؤلم الذي يعيشونه. فهذه المنظمات والعمليات الجهادية الخارجة عن تحكم الدول الإسلامية، ما هي في الواقع الا تنفيس زفرات من هذا الاحتقان الاسلامي. هذا الاحتقان ناتج عن ازدياد ادراك المسلمين يوما بعد يوم بمستوى تأخرهم الحضاري العلمي عن جميع شعوب الارض قاطبة، فقيرها وغنيها، الديمقراطي منها والديكتاتوري، أهل الكتاب منهم أو البوذيون أو الملحدون.
وعندما استيقظ المسلمون على واقعهم الذي يضعهم في مؤخرة الأمم، لجأ المسلمون إلى حيلة نفسية تخرجهم من واقعهم المحبط بإرضاء أنفسهم وتسكينها بأنه إن كان عند الغرب والشرق حضارة علمية عظيمة، فإن عند المسلمين دين عظيم فيه عوض عن تأخرهم العلمي اليوم.
فهناك إذاً فرق جوهري بين التفكير الاسلامي والتفكير الأوروبي النصراني أو الآسيوي البوذي او الهندوسي أو حتى الفكر الإلحادي، عند الحديث حول مفهوم موحد يجتمع تحته أهل أديان الارض قاطبة ليكف بعضها عن قتال بعض، ( وخاصة بعد تطور فتك الأسلحة، وارتفاع الكثافة السكانية وحتمية اختلاط الشعوب). فالفارق الجوهري بين تصور الأمور عند المسلمين وبين غيرهم هو ان المسلمين يعتقدون بشدة أن عزتهم وتمكينهم يكمن بعودتهم لتطبيق دينهم في شئون حياتهم السياسية والاجتماعية وغيرها، على عكس النصارى الأوروبيين الذين يؤمنون بفصل الدين عن الحياة ويرون ان سبب تأخرهم العلمي قديما كان بسبب الكنيسة. وأما الأديان الآسيوية كالبوذية والهندوسية ونحوها فهي لم تختلط بالسياسة ولا التجارة ، فلم يكن لها دور في تشكيل عائق مباشر ولا محفز مباشر لقيام الحضارات الآسيوية.
وأقصد بالتأثير المباشر هو تدخل رجال الدين في الدعوة والمشاركة في العلوم الطبيعية والدنيوية أو محاربة هذه العلوم وتأليب الشارع والحكام عليها. ورجال الدين النصارى والمسلمين قد تدخلوا مباشرة في السياسة وفي حياة الناس العامة. ومن ذلك منعهم ومحاربتهم للعلوم الطبيعية والدنيوية ولعلمائها، بخلاف رجال الدين البوذيين والهندوس الذين اعتزلوا الحياة العامة ولم يتدخلوا في السياسة ولا التجارة ولا العلوم الدنيوية. وأما التأثير غير المباشر، فجميع الاديان تدعو للصفاء الروحي والاستقرار النفسي، وهذا له أثره غير المباشر على الإنتاجية سلبا أو إيجابا. فهو إيجابي عموما في الحروب والأزمات، وهو سلبي عموما على الإنتاجية في زمن الاستقرار والسلم حيث تميل النفس البشرية للاتكالية والخلود للراحة وتعليق أخطائها ومصائبها على المشيئة الإلهية.
فإذا تبين لنا هذا (وهو أن المسلمين يجدون في الإسلام عوضا يسليهم عن تأخرهم الحضاري والعلمي) فإنه يستحيل عمليا جمع غالبية أفراد المسلمين تحت مظلة أي مفهوم عالمي يسلبهم هذا التميز الديني ويضعهم على قدم المساواة مع الأديان الأخرى. لذا فإنني أعتقد ان التوجه يجب أن لا يكون بالتقريب بين الأديان، ولكن في إيجاد مفهوم يجمع أهل الاديان على أن يكف بعضهم عن بعض، فكل أهل دين يعتقدون أنهم قد تميزوا بدينهم عن شعوب الاديان الاخرى، والنفس البشرية تحب التميز فطرة والتقريب بين الأديان يلغي هذا التميز فلا جدوى مرجوة من أي مشروع يقاوم الفطرة البشرية.