ولَّى ذلك الزمن الجميل الذي كانت فيه مكتبات المدارس محضناً ثقافياً ثراً وغنياً للطلاب، رغم أن السنين التي ولَّت تلك كانت تتسم بإنفاق الكفاف أو ما دون ذلك في الثمانينيات والتسعينيات الهجرية من القرن الماضي. ومع شح المال بين يدي وزارة المعارف في ذلك الزمن، حين كان حسن بن عبد الله آل الشيخ وزيراً لها، إلا أن الكتب والمجلات والجرائد لا تنقطع أبداً عن مكتبات المدارس والمكتبات العامة التابعة لها المنتشرة في معظم مدن وقرى المملكة!
لقد كانت سيارات «اللوري» الكبيرة تأتي بمئات الكراتين من الكتب بعد أن يتم شراؤها من لبنان ومصر ودور النشر السعودية، وتجليدها، ثم توزَّع على المدارس والمكتبات العامة بحسب حجم كل مدرسة ومكتبة وكِبَر وصِغَر المدينة والقرية. لقد قرأتُ أنا وأبناء جيلي في المرحلة الابتدائية قصص الأنبياء والقصص التاريخية وغزوات الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأحمد محمد باشميل وكتباً أخرى كثيرة، تتلاءم ومقدرة طلاب المرحلة الابتدائية، واطلعنا على عشرات المجلات التي تتناسب مع شغف الطفولة بالمجلات القصصية المصورة، كالسندباد مثلاً، وما كتبه محمد سعيد العريان وغيره من قصص سهلة ميسرة، تتناول تاريخ العرب وتراثهم، وكذلك قرأنا ألواناً من القصص الشعبي، كالزير سالم والمهلهل سيد ربيعة وتغريبة بني هلال وغيرها.
وهو الشأن نفسه في المكتبات التي كانت تابعة لوزارة المعارف؛ فلم يكن ينقطع عنها المدد الثقافي المتنوع من نتاج المفكرين والأدباء والكتاب من الوطن العربي كافة، ولا تنقطع عنها عشرات المجلات والجرائد الشهرية والأسبوعية واليومية.
وقد كان لرائحة حبر تلك المجلات نكهة خاصة حين يضعها أمين المكتبة على الطاولة بعد فتح أغلفتها؛ لقد كانت أحبارها طازجة ذات رائحة نفاذة، وكأنها خرجت من المطبعة للتو، وهي لا تنحصر في اتجاه معرفي واحد، ولا تؤطر ثقافة محددة؛ فقد كانت أجواؤنا الفكرية سليمة من التضييق الفكري الذي اشتد وحاصر ما لا يتفق معه من رؤى صحوية بعد عام ألف وأربعمائة من الهجرة؛ فقد كنا نجد بين يدينا على الطاولة أشتاتاً من المجلات السعودية والعربية، كاليمامة بحجمها الذي كان كبيراً جداً واقرأ والدعوة ومجلة رابطة العالم الإسلامي والجرائد السعودية كلها ومجلة العربي والبلاغ والمجتمع الكويتية ومجلة الجديد والحوادث والجمهور اللبنانية ومجلة أكتوبر وآخر ساعة والمصور المصرية وغيرها.
لقد أفاد جيلي ومن سبقونا من هذا الثراء والغنى المعرفي؛ فبنوا ثقافتهم، وتعشقوا الكتاب والمعرفة وحب الاطلاع بما توافر بين أيديهم من شتى المعارف والفنون؛ فقد قرأنا سلسلة روايات تاريخ الإسلام الثلاث والعشرين لجورجي زيدان في مكتبة المعارف، وكنا نحجز الرواية أو يخبئها أحدنا بين أرفف الكتب؛ لئلا يأتي في الصباح الباكر من يسبق لالتقاطها، بل كانت الصلة الطيبة بأمين المكتبة تشفع لأحدنا بأن يستعير الرواية لقراءتها في المنزل؛ فقد كان الشغف بمعرفة النهاية لا يدع فرصة للانتظار إلى الغد بعد أن تغلق المكتبة بابها الحديدي المتواضع عند أذان المغرب!
كان ذلك الثراء والسخاء المعرفي في وقت الفاقة وشح ميزانية وزارة المعارف في تلك السنين، بينما تعيش مدارس وزارة التربية والتعليم الآن فاقة وشحاً في مصادر المعرفة والتثقيف المتمثلة في المكتبات في وقت «التخمة المالية» وميزانيات الوزارة التي لا تُقرأ إلا بالمليارات!
إنَّ الفترة الذهبية التي نعمت فيها وزارة المعارف بسخاء الإنفاق على المكتبات والكتب والصحف والمجلات وتزويد المدارس والمكتبات التابعة لها بكل طارف وتليد كانت في عهد الوزير حسن آل الشيخ رحمه الله، ثم تقلص الاهتمام بذلك بعده إلى حد الإجداب، بل إنه انقطع بصفة نهائية خلال ربع قرن مجدب كئيب في العهد الوزاري الذي تلاه، واستمر الإمساك بعد ذلك عن دعم الثقافة والمكتبات في المدارس؛ فأصبح كالعادة المرذولة إلى الآن!
أين تلك «المعارف» الثرة التي غابت وتلاشت واندثرت، وأصبحت تاريخاً بعد أن أُلغيت وصارت تربية وتعليماً؟!