لو سافرت إلى الولايات المتحدة الأمريكية فإنه خلافاً لمن ستقابلهم من رجال الجوازات في المطارات الأمريكية، فإنك ستقابل شعباً لطيفاً، شعباً عملياً يحب القوانين ولا ينفر منها، بل ويستهجن من يعتدي عليها، يشكرك عندما تسدي له خدمة أو تفسح له الطريق، وأحياناً يبادرك بالتحية وإن لم تكن أمريكياً.
عندما تدخل محلاً تجارياً أو تركب حافلة لن تنقطع عن أذنيك عبارات الشكر أو التمني بيوم سعيد أو ليلة سعيدة، أينما حللت تسمعها في المحلات والحافلات يتبادلونها فيما بينهم! بابتسامة ليست غريبة على الأمريكان الذين تقابلهم أينما ذهبت. في منتصف رحلتي قابلت رجلاً كبيراً في السن قال لي إن اسمه (جون)، طيار متقاعد يبلغ من العمر أربعة وسبعين عاماً! وهو يحب السعودية لأنه عمل فيها عام 1970م، عندما تعاقدت معه شركة بريطانية كمدرب طيران في مدينة الظهران، تقابلنا بعد ذلك كثيراً بعد أن اعتاد شرب القهوة العربية على طاولة ارتكزت في حديقة أمام سكن أحد الزملاء أسميناها طاولة سامي، على غير عادة أغلبية الأمريكان لديه ستة من الأولاد والبنات يهتم بهم، وأسكن ابنته وابنه معه في شقته حتى ينهيا دراستهما الجامعية وهو يدفع لهما مصاريف الدراسة.
حكى لي بإعجاب أنه ورفاقه كانوا يذهبون إلى مقاهي مدينة الخبر، وأنهم يدهشون كثيراً عندما يؤذن للصلاة فإذا بالمحلات التجارية تغلق نصف إغلاق، ويسدل صاحب المحل قماشاً على بضاعته ثم يذهب إلى الصلاة! ويقول إن ذلك آثار دهشتنا وإعجابنا!
صاحبنا حانق كثيراً على نيكسون لأنه أول من سمح للمصانع الأمريكية أن تغادر إلى الصين وغيرها فبقيت أمريكا بلا مصانع، لا يحب الكثير من أفلام هوليود ويعدها سبباً للفساد الأخلاقي، لا يحب الملابس المثيرة للمرأة، وهو يرى أن خروج المرأة للعمل أحد أسباب الفساد الأخلاقي وإضعاف الأواصر الأسرية! وهو من الذين لا يؤيدون دخول المرأة إلى الجيش، فهو يعتقد أنها لن تحتمل ما يحتمله الرجال! دعانا لمشاهدة فيلم يعجبه كثيراً وهو (فيلم لورنس العرب) فدعوناه لمشاهدة فيلم (عمر المختار) والذي نال إعجابه واستغرابه! فالكثير من الأمريكان يجهلون ما تعرض له العرب خلال فترة الاستعمار من ظلم واحتلال وتطهير وقتل بمئات الآلاف بنيران جيوش الدول الغربية الغازية! يسأل كثيراً عن الإسلام ونجيبه بما نعرف وزودناه ببعض مقاطع اليوتيوب، لا يعجبه حال بنات أمريكا وما يتخذنه من أخدان أو ما يسمى بـ (البوي فرند)، ويقول إن ذلك بدأ تقريباً أثناء انشغال الجيش بالحرب العالمية الثانية، حيث اضطرت المرأة في غياب الرجل للخروج إلى العمل فتفككت الأسرة وقل الإشراف على الأولاد والبنات واضطرت البنات للسفر خارج الولاية وعندها استقلت البنت وبدأت الصداقات بين الأولاد والبنات بسبب انشغال الأسرة واستقلالية الأبناء وعدم قدرة الأسر على الصرف على أبنائها. يؤكد أن الأمريكان بشكل عام أسرى للبنوك وأن الضرائب تثقل عليهم وأن الحكومة أسيرة لأصحاب الأموال والشركات العملاقة، الولاية التي نسكنها تفرض ضريبة مقدارها 8 % تأخذها من كل نشاط تجاري من مبيعات كل محل او مطعم أو غير ذلك. التعليم ليس مجانياً وكذلك العلاج، ولقد فتح فمه إلى آخر مدى عندما قلت له أن ذلك مجاني في بلدي! وأن في أمريكا الآن ما يقارب ثمانين ألف مبتعث ومبتعثة تدفع لهم الدولة مصاريف التعليم والعلاج والمواصلات! هو مستاء كثيراً من الحال الاقتصادية لبلده، فكما قال لي إن لديها عجزاً مزمناً في الميزانية، ولذلك فإني أتصور أن هذا العملاق سوف يكون خطراً وشرساً لو جاع أكثر! إن معاناة الشعب الأمريكي الاقتصادية تطبق على أنفاسه، لذلك فإن صاحبي يقول وبابتسامة إن الأمريكان لا يقولون الحقيقة عندما تسألهم كيف حالكم؟ فهم يردون عليك أنهم بخير!! مع أن الكثيرين لا يجدون وظيفة ولا يستطيعون دفع تكاليف العلاج! ويبحث أحدهم عن عمل ليؤمن تكاليف الجامعة، ويركب الدراجة لأنه لا يستطيع أن يشتري سيارة! في إحدى المساح التي تقدم وجبة قبل العرض المسرحي شاهدت الممثلين يقدمون الطلبات للزبائن ثم يقومون بأدوارهم المسرحية! وعندما سألت المخرج عن ذلك قال لي: إن وظيفة واحدة لم تعد تكفي! صاحبنا الطيار المتقاعد ينوي أن يهاجر إلى السويد فهو يرى أنها أفضل مكان يعيش فيه ما تبقى من عمره، بعد أن ينهي آخر أبنائه دراسته الجامعية!