أيُ قدرة على التفكير والرؤية الشاملة تبَقتْ في العقل العربي بعد أن تفككت أوصالُ وطنه العربي الكبير وتناثرت في اتجاهات متعددة أشبه بذرات تدور حول نواةٍ غيرِ مرئية لا يُبصر منها سوى تداعيات العجز والتآكل في المواقف والاضمحلال في الفكر السياسي وعدم القدرة على مواجهة القضايا بكل تفاصيلها الشائكة واتخاذ القرارات المناسبة لها.
من المعيب.. أن نظل نحن العرب نتشدق بأمجاد الماضي ومنجزات الحضارات القديمة والقوة التي مكنتْنا.. ونبقى اليوم في أواخر قافلة البشرية نقف عاجزين أمام أزماتٍ وتحديات أغرقت الساحة العربية.. وحولتها إلى ميادين صراع تتسابق إليها بدعاوى مختلفة.. قوى لا تؤمن إلا بمصالحها.
فشل النخب السياسية العربية في بلورة رؤاها وحسم خياراتها دون الاستعانة بتدخل خارجي.. وانغماسها في صراعات ايديولوجية بسبب أفكار ورؤى سياسية أحادية ومتفردة.. هي من أسباب النكوص والانحطاط التي أصابت الفكر السياسي العربي مما أدى إلى عجزها عن الارتفاع إلى مستوى الأحداث والتحديات الجارية وربما سهل ذلك إلى الاستخفاف بها أو تجاهلها على النحو الذي يقع اليوم.. بعد أن كانت نقطة ثقل يُحسب لها ألف حساب في الموازين الدولية.
إن أبرز عيوب متخذي القرارات السياسية في العالم العربي تتراوح ما بين رفض تقبل النقد.. إصرار على تملق الشعوب إلى جانب نزعة العنف أو الإقصاء وإقحام الدين في كل شاردة وواردة من أمور السياسة مما كرَّس ذلك مجموعة كثيرة من الإشكاليات المستعصية أمامها ما جعلها غير قادرة على حماية مصالحها ومواجهة المخاطر التي تحيق وتعصف بها من كل الاتجاهات.. يضاف إلى ذلك مشكلة الكتل الحزبية والطائفية.. التي تؤججها وتحركها قوى خارجية.. أو تثيرها بعض السياسات الداخلية بهدف زعزعة الأمن ونشر الفوضى وإثارة الفتن البغيضة.
الفكر السياسي العربي يعاني من أزمة عميقة انعكست آثارها على الوطن العربي بمؤسساته المختلفة.. فلم يحقق تقدماً اقتصادياً أو سياسياً يُذكر على المستوى العالمي، والنظم العربية صانعة ومنفذة القرارات تمثل عنواناً لأشكال القصور المذهلة في مواجهة الأزمات والتحديات ويبدو أن العقول العربية السياسية المفكرة مغيبة تماماً عن دوائر صنع القرار وأن أنظمة الحكم العربية لا تملك مرجعيات للنقد والمراجعة وإن وُجِدت فهي أحادية متفردة ما يجعلها ضيقة في أفق الرؤية غير قادرة على تصحيح الأخطاء المتراكمة.
انتفضت الشعوب عن بكرة أبيها واندلعت الثورات في أكثر من دولة عربية.. فتعرَّت العقول السياسية وانكشف الغطاء عن الانحرافات العنصرية والنزعات الطائفية.. وتراجع الوعي الجماعي وصار الوطن الواحد حلبة صراع للكتل والأحزاب السياسية وتأجيج الكراهية للآخر ولا زال مستمراً.. فلا غرابة أن تظل مشكلة اضمحلال ونكوص الفكر السياسي العربي أحد أهم روافد العجز والجدل والصراعات وأن أي محاولة جادة لمراجعة وتصحيح الأخطاء سرعان ما يتم وأدُها ليبقى الفكر السياسي العربي يدور في حلقة مفرغة بعيداً عن التفاعل مع المتغيرات الدولية ومواجهة تحديات المستقبل.