كان لمنظمة الطلبة العرب نهاية السبعينيات دور في تطوير تجربة “تعليمية وتدريبية” تربوياً وسياسياً، فكراً وسلوكاً، على مستوى العقل والوجدان والضمير بين الطلاب العرب. وقد كانت تجربة العمل الطلابي الطوعية لمرحلة التعليم الجامعي بأمريكا الشمالية تضاهي تجربة المعرفة العلمية النظامية للدراسة الجامعية في التخصصات المختلفة للطلاب من “الطب والهندسة والعلوم التقنية إلى الاقتصاد والسياسة والإدارة والأدب والقانون”.
وقد انصبت تلك التجربة الرائدة تحديداً في مجال تطوير التعامل مع الأنا ومع الآخر، سواء كانت العلاقة بالآخر تتمثل في علاقة الطلاب ببعضهم باختلاف خلفياتهم، وبالأخص علاقة الطلاب والطالبات، أو كان الآخر المجتمع الأمريكي في تركيبته المعقدة باستفرادها وتعدديتها، والمجتمع الجامعي منه على وجه التحديد. وبحسب واقع تلك المرحلة الدراسية، فلا بد أن أعترف بأنني عايشت من خلال الانخراط في العمل الطلابي والوطني بمنظمة الطلبة العرب واحداً من أنبل وأعذب وأغنى فصول العمر، بما عبثاً أحاول استعادة تفاصيله بأكبر حيادية ممكنة؛ إذ كانت تلك التجربة في التعامل مع الذات ومع الآخر مدرسة يومية لي ولِطَيف عريض من الطلاب أولاداً وبنات. كان أغلب الطلاب الجدد من دفعتي قادمين من مجتمعات ليس لديها رصيد يعتد به في إتاحة تجربة العمل الطلابي بأي مفهوم، ناهيك عن تضمينه أو تطعيمه بأي مفهوم سياسي. وعلى الرغم من أن مجموعتي من الطلبة، سعوديين و”بحارنة” و”كويتيين”، المحولة وقتها من الجامعة الأمريكية ببيروت إلى جامعات الشمال الغربي الأمريكي، كانت تتمتع نسبياً بمعرفة مبدئية بالعمل الطلابي، بعضها بالمراقبة والقليل منها بالممارسة، فقد اتضح أن ذلك لم يكن إلا قطرة في بحر تجربة منظمة الطلبة العرب. وتجلى ذلك في العمل على تفكيك وإعادة بناء شبكة العلاقات الغامضة أو الشائكة بالذات وبالنحن وبالآخر وبالقضايا الكبرى والصغرى، بما شكَّل إعادة اعتبار للذات الطلابية المهمشة ولموقع الطلاب كقوة من القوى الاجتماعية وكطليعة لتطلعاتها. فقد كانت العلاقة بالذات علاقة ملتبسة بين الفخر الماضوي بأمجاد الحضارة العربية الإسلامية، بما فيها موقعها المعرفي الذي شكل قنطرة نور من العلوم في الطب والفلك والجغرافيا والفلسفة والعمران، ربطت الحضارة الإغريقية بالحضارة الغربية، وبين الانكسار نتيجة لواقع التخلف والارتهان للقوى الغربية الذي يعيشه المجتمع العربي، والتعقيد الذي أضافه النفط على كل من العلاقة بالذات وبالآخر. أما علاقة الذات بالنحن فلم تكن أقل التباساً في بُعدَيها الرأسي والأفقي محلياً وعربياً، وذلك على أصعدة حياتية عدة، إن لم يكن جميعها. فهناك محلياً، وفي معظم خلفيات الطلاب العرب، علاقة الحاكم بالمحكوم الرأسية الملتبسة بين إرث الانضواء القبلي وبين واقع الاستبداد العسكري المؤسسين على الطاعة العمياء وسياسة الاتباع لرب الدولة شيبة وشيباناً، دونأن يسأل إنسان واحد من أين إلى أين أو إلى متى كما في “هزيمة 67م”، بما أبقى التطلع لبناء “دولة وطنية معاصرة” تطلعاً يعيش على استحياء في الحلم والشعر أو في تنظيمات هامشية لا حول لها ولا قوة، تعيش مشردة تحت الأرض أو على أسطح سياسية هشة، وإن ضخمها الفراغ وقتها لتبدو “واحات ديمقراطية” مثل بيروت والكويت وعدن. وكانت العلاقة الأفقية عربياً - عربياً ترفل في الحروب المقنعة والتنافس الشريف وغير الشريف السافر تحت أسماء القومية العربية والتضامن الإسلامي.. في مواجهة متخبطة لموروث التقسيم “القُطري” من التركة الاستعمارية “لسيكسبيكو”. كما كانت العلاقة بالنحن على الصعيد المجتمعي - المجتمعي متحجرة في تركيبة هرمية غير عادلة طبقياً وقبلياً ومناطقياً، وبين النساء والرجال على الأخص، بما جعل النشاط النقابي والسياسي داخل منظمة العرب محاولة استشفائية ضارية من خلفيات تلك العلاقة الحدية القاسية في العلاقة بالذات وفي العلاقة بالنحن وبالآخر. وأستطيع أن أقول عن معايشة مباشرة متفاعلة إن الطلاب الذين مروا بتلك التجربة “التعليمية التدريبية الرائدة” شخصياً ووطنياً خلال مرحلة الدراسة بأمريكا كانوا ممن دعت لهم أمهاتهم؛ فقد حصنتهم/ حصنتنا تلك التجربة بغير أسلوب التحريم والقمع من كثير من مزالق “الصدمة الحضارية” التي يمر بها الطلبة عادة في لحظة الانتقال من مجتمعات مغلقة إلى مجتمع منفتح، كما رصدتها شخصية مصطفى سعيد الروائية في موسم الهجرة إلى الشمال، وعين رضوى عاشور في مذكرات طالبة مصرية بأمريكا؛ ما يجعل تلك الصدمة الحضارية تؤدي عادة إلى الانسحاب والتقوقع، وتحويل تجربة الدراسة الجامعية العريضة إما إلى معازل مغلقة متعالية، يعيش فيها الطلاب صقيع العنصرية والغربة، أو يقود إلى انغماس غير رشيد في بؤر غير رشيدة من المفتوح أمامهم على غير ما عهدوا. لا أستطيع أن أصف على صعيد شخصي تلك العلاقة الراقية التي تطورت بين الطلاب والطالبات على سبيل المثال، علاقة فيها مستوى مثالي من المساواة، ومستوى لا يقل مثالية من التعامل اليومي الحضاري. فمن يصدق أن تمر مواسم مثل إجازات “الكرسمس والنيويير، رأس السنة، والإيستر” المليئة بالصخب والطلبة العرب للمنظمة بنات وأولاداً لا يحفلون بأي من مظاهر الأعياد الاستهلاكية واحتفالاتها؛ فهم إما يشغلون فراغ العطل بتعاون نقابي في رفع علاقات تضامنية على صعيد تكاليف المعيشة والمتطلبات الدراسية الصعبورأب صدوع الاغتراب، أو منغمسون في تفكيك الوعي القديم ومحاولات تركيب وعي ثوري جديد عن طريق إقامة مؤتمرات ومخيمات تثقيفية، يعملون فيها بأيديهم وبعقولهم، من تحضير الوجبات الثلاث والخروج في المظاهرات الاحتجاجية أو التضامنية مثل “ثورة الخبز في مصر السبعينيات”، إلى إقامة الندوات والدخول في جدل النظرية والتطبيق والفكر السائد والفكر النقدي والتجديد للأسئلة الفلسفية والمساءلة عن المسؤولية الفردية والاجتماعية في مآلات العالم العربي السياسية.
ولعمري، كما يقول العرب، فإن تلك التجربة من العمل الطلابي الوطني لا تقل أهمية معرفياً عن تجربة الدراسة الجامعية بالولايات المتحدة الأمريكية بثقلها العلمي وقدراتها التنويرية الأخاذة؛ فتلك النشاطات المنبرية الموسمية التي تناولت عينة منها الأسبوع الماضي، مع الأخذ في الاعتبار ما استذكرته اليوم من ذلك العمل اليومي الدؤوب على التفكيك النقدي للفكر ولسطوة المستتب من العلاقات بالذات والنحن والآخر، كانت تروم من أسلوب التعليم بالتجربة إلى استبدال الذات المهمشة بالذات المسؤولة المتسائلة، والنحن المنقسمة بالوحدة المشتهاة مع تغيير أقدار علاقة النقص أو التعالي بالآخر المهيمن/ الغرب والقطبين الأمريكي والسوفييتي وقتها إلى علاقة ندية منصفة تبادلية.
ومع أني بعد ثلاث مقالات خصصتها للحديث عن تجربة العمل الطلابي والوطني في منظمة الطلبة العرب ما زلت أبدو كمن فشل وقد نجح، أو العكس، في بلوغ شجاعة الخوض في التفاصيل الشخصية من التجربة التي عادة ما تشكّل روح أي عمل سردي شغوف، وخصوصاً عندما يوحي وإن لم يدعي بمقاربة شيء من السيرة الذاتية، فإن الأمر الوحيد الذي أستطيع أن أكتبه بلا مراوغات اللغة أن تلك التجربة الطلابية بطابعها السياسي النقدي كانت كأنها تدريبات مبكرة على بناء فكر سياسي وطني نقدي مستقل. هذا مع ملاحظة جوهرية، هي أن تجربة منظمة الطلبة العربية ليست بطبيعة الحال تجربة مثالية أو نرجسية، لا بالمعنى الفلسفي ولا بالمعنى السياسي أو الإنساني العام؛ فهي لم تخل من نضالات بل صراعات فتاكة أحياناً بين مختلف ميول قواها وبين انعكاسات اختلافات الفصائل السياسية بالوطن العربي وفي منافيه المتعددة عليها. غير أن هذا لا يتعارض مع أنها لم تألُ جهداً في الدفع بشرف المحاولة على تطوير معارضة ليس بالضرورة بالمعنى السياسي، بل بالمعنى المجتمعي أيضاً، بما يبدو أن معظمنا لن يطيق أثمانها بعد العودة إلى الوطن والانضواء من جديد كالولد الضال تحت سطوة اللواءات والولاءات القديمة، أو تلك المنحدرة منها في صيغها النفطية المستحدثة. وتلك قصة أخرى.
يتبع ما بعد التجربة الدراسية الجامعية بأمريكا.