حين تحل الهزيمة بالأمة؛ فإنها لا تكسر سيادتها السياسية أو العسكرية أو الاقتصادية فحسب؛ بل تتعدى ذلك إلى الهزيمة النفسية؛ تتجاوز حدود المرئي والمدرك إلى ما وراءه مما لا يرى ولا يحس ولا يدرك؛ تتمكن في الداخل كعلة كامنة ساكنة في السويداء تنخر الجوهر العميق إلى أن يتداعى الجسد كله منهارا!
قد يكون هذا الكلام عائما هائما ينطبق على حالات كثيرة متكررة؛ بيد أنه في الجوانب المعنوية والفكرية والأخلاقية أقرب وأكثر تجليا ووضوحا؛ فهل يشك أي متأمل محايد سالم من تأثير سحر العاطفة في أننا نحن العرب والمسلمين تابعون للغرب لاهثون خلفه راكضون وراء ما يبدعه ويصنعه ويطلقه من مقولات وأحكام؟! لا أكاد أجد من يرد هذا الزعم أو يتشكك فيه، وقد لا يكون هذا اللهاث مرضيا ولا سارا من يخاف على الأمة خطر الفناء والانحلال والذوبان في الآخر؛ لكنه أمر واقع أردنا هذا أم لم نرده!
نحن لا نتمنى أن نكون كالقطيع اللاهث خلف سيده، لا نتمنى ذلك ولا نريده؛ بيد أنه أمر متحقق وحاصل!
هانحن نرطن الإنجليزية ونتغنى بها؛ ويعلم كثيرون منا أسرارها أكثر مما يعلمون حكم الجار والمجرور أو المضاف والمضاف إليه أو المستثنى والمستثنى منه أو الفاعل والمفعول به والمفعول معه أو الحال أو التمييز في اللغة العربية!
هانحن نتقن كيف يأكلون ، وبأية طريقة يشربون ، وعلى أي نظام يسيرون ، وبأي زي يسهرون ، وفي أي شهر أو يوم يحتفلون! بينما لا يلقي كثيرون من أبناء هذا الجيل بالا لما يتصل بعادات بني يعرب في المأكل أو المشرب أو الملبس ونحوه!
إنها عقدة الغالب والمغلوب!
قال ذلك قبل سبعة قرون شيخ المؤرخين وأمير علماء الاجتماع عبد الرحمن بن خلدون؛ على الرغم من قسوته على العرب في مقدمته حينما اتهمهم بأنهم ليسوا أرباب صناعة وعمران؛ بل هم أرباب غزو وترحل ولسان؛ فهم - كما يذهب - لا يتفاخرون بالمعنوي أكثر من تباهيهم بالمادي؛ كرما أو شجاعة أو فصاحة وبيانا!
تتحقق نظرية الشيخ ابن خلدون في أن المغلوب يتبع الغالب في كل العصور والأمصار؛ ففي الأندلس - مثلا - اتبعنا الغربيون حين كنا أسيادا وصناع حضارة حذو القذة بالقذة؛ فترحلوا إلينا يطلبون العلم والمعرفة في الطب والفلسفة والزراعة والعمران؛ قدموا إلينا من فرنسا وألمانيا وسويسرا وإيطاليا وغيرها منبهرين معجبين بما لدى علمائنا من نبوغ وتفوق، وما كانت تزدهر به قرطبة وأشبيلية وغرناطة من تحضر ومدنية؛ فقلدونا في الملبس والزي، وأخذوا عنا أسلوب الأكل على الطاولة بالملاعق والسكاكين وتعاقب أنواع الطعام على دفعات، وأخذوا عنا آداب الحمام و الاهتمام بالنظافة والأناقة؛ حيث كان هناك الفنان الأنيق «زرياب» الذي أشاع في الأندلس أنماطا جديدة من طرائق اللباس الأبيض الخفيف في الصيف والملون الثقيل في الشتاء، وأشاع تصفيف الشعر على الجانبين ثم جمعه في ذؤابة واحدة من الخلف؛ كما يفعل الشبان الغربيون اليوم!
تعلموا لغتنا وتحدثوا بها؛ بل كانوا يتباهون بإدخال كلمات عربية في أثناء حديثهم كما يفعل بعض أبناء بني يعرب الآن بالانجليزية!
ودارت دورة الزمان؛ وانقلبنا من غالبين إلى مغلوبين ، ومن مقلَدين إلى مقلِدين!
نلبس كما يلبسون، ونتحدث كما يتحدثون، ونقص شعورنا كما يقصون، ونعمل بأنظمتهم في الإدارة والتجارة وطلب العلوم والصناعات وغيرها كما يعملون!
فهل نلام على هذا اللهاث المحموم نحو تقليد المنتصر الغالب المستبد؟! إنها سطوة الانتصار وذل الهزيمة، تدفع المهزوم إلى أن يلثم يد صافعه! وإلى أن يجثو خاضعا تحت ركبتي سيده رغم أنه يدوس على أنفه بقدميه!
لنتأمل الشعوب المستعمَرة كيف تجاهد إلى أن تخرج المستعمرَ ثم تلهث خلفه معجبة مقلدة!
يصفعوننا بتحية الصباح، ثم يحيوننا بمثلها في المساء ونقبلهم!