بدون أن تكوني معي استطعت اليوم أن أصنع لنفسي الشاي، وأجلس دون أن أكون متوجساً خيفة من أن أصحو من حلمٍ فأشعر أنك غادرتني! إنهم يسمّون هذا تمريناً (روحياً). لست من المؤمنين بتأثير اليوغا، ولا أودّ أن أؤمن بأي شيء وهو خارج السياق العلمي، مع أنني أقوم في بعض الليالي المريرة، وأذهب كي أتوضأ ثم أصلي ركعتين،
وأمكث في مكاني قليلاً، وأذهب إلى فراشي الذي يبادلني (الغيظ) نفسه الذي أحمله تجاهه، ليس لأنه مجرد شيء له وقته وزمانه، وهنالك من الأهوال ما لا يستطيع غيره أن يسمعها مني، ولست بمتكلم عن ماهية هذه الأهوال بسبب قلة الطرافة التي تنطوي عليها، وحسب علمي فإنني رجل مهذَّب! لم يكن غير رسالة تحمل منها رائحتها المباركة، وفيها جملة قدمتها بأولها تقول “كم.. تلزمك؟ لكي تكتبَ لي كل شهرين إنني أحبك!”. وأن يتلقى رجل معتكف في (معتكفه) هذا الكلام الرّذاذي ويعود إلى أزمنة كان يتجاهلها - على الأقل - فتلك إحدى نوائب الدهر!
منذ أن يئست من أن الحال سـ(ينصلح!)، منذ تجاهلتني رياحك وصارت تمطر نفسها بعيداً عن حتى نوافذ غرفتي، ومنذ أن عدت مرّة إلى البيت ممتلئاً بالخنوع وبالحزن الذي يستحيل علاجه عبر أي طريقة من العلاج، وأمشي نحو الباب وئيداً وغير ملتفت مطلقاً للذي يدور في زقاقنا (هم يسمّونه: شارعنا)، ولكنني سادر في السباحة في غيوم الرؤى وراحلٌ مع الذين يسلكون طريق الجوف/ عمّان، وبي شوق لست أخفيه إلى النكوص. فأنا أتساءل دوماً إذا كان مجرد النكوص عاراً؟! وحين لا أسمع ردًّا سوى من سواد الليل الذي يجيئنا مبكراً دون مدن وقرى الآخرين أتنحنح بشكل مسرحي وأنا أمارس الدخول إلى البيت، وأردد “من هناك؟”، منتظراً الإجابة التي لم أزل مصرًّا على أنها الإجابة المثالية (أهله!)، ولكن الله لم يشأ أن يجعل من أفراد عائلتي من يشغل نفسه كيف يجيب عن سؤال كهذا، من المعروف أن ظروف تكوّنه لغوياً هي ظروف سوسيولوجية! لأنه لم يعد الناس يدخلون بيوت الناس الآخرين إلا بواسطة (طقوس) محددة، مثل (... الليلة سيتعشى لدينا نسيبنا ونتمنى ألا نكون ثقلاء إن دعوْناك للحضور!). وطبعاً ليس على القارئ تخمين اللغة الأصلية لهذا الخطاب، ولكنّ المهم أن يعرف كجزء من الفولكلور كيف يمكننا فهم الحوار باللغة المنسية!
ووالله يا سيدتي إنني أعرف أنني مقصِّر في حقك، وممعن في تجاهل مجاملاتك المازحة لي، وهي ليست كذباً إن قلت (مجاملات)، لكنني كما أسلفتُ رجل مهذَّب لدرجة أن صديقاً لي مات - رحمه الله - كان يحدّق بي وأنا أتحدث عن موضوع ما، وحين أنتهي يقول لي بصوت فيه حشرجة الخشوع “أنا أشهد! أنت رجل أدّبك الله. كم أنت مهذب؟”. وأكتفي بأن أبتسم؛ فهو لا يريد أن نضع المسألة مادة للحوار. إنها ملاحظة عجلى من ملاحظاته العبقرية! وكلّ مرة أحاول فيها أن أبادرَ تأتيني مشاعر انعدام روح المبادرة. وهي مشاعر شبيهة بالذُّهان! والليل دوماً هو: مُلكي! لا ينقصني في الحقيقة سوى نصب خيمة وطاولة قديمة ورزم من الأوراق التي لا جدوى منها سوى أنها تضفي على المكان حال الفوضى التي أتجنبها منذ زمن طويل دون أن يكون لطوله دورٌ في إنضاج روح عدم إثارة الشعث والغبار واللا التزام الممعن في ازدراء الآخرين. سواء كان هؤلاء الآخرون معنيين بأمري أم من الذين يعتبرونني مجرد إنسان ينتظر الموت! لأن كل ما هو مطلوب من رجلٍ ليجعل الناس لا يعبؤون بموته ولا استمراره في الحياة موجودة فيّ! إنني مثل شبه جزيرة إفريقية، تطمر أرضها أطناناً من المعادن النفيسة، وأهلوها ليسوا في وارد البحث عن ممتلكات إضافية! وهذا سلوكٌ له مناصروه من غير الذين يمارسون الحياة كفرصة (سوف تتكرر!) للاقتناء والتملك والتخلّي عن الآخرين ولو كانوا يمرّون بأسوأ كوارثهم الشخصية. وأنت لست إلا كارثتي الشخصية المميّزة. تلك التي لا يمكنني تجاهلها ولا حتى تحمل تبعاتها! أعرف في الحقيقة أنّ لي سلوك العدميين إن صحّ التعبير. حتى في شكلي أو مظهري أبدو غير آبه بالذين تحكم ظروفهم أن يروني! وكذلك فإنني نحيف بصورة لافتة للنظر - نوعا ماً - وهذه مسألة يطول شرحها، وأصلاً فأنتم لستم بحاجة لشرحها، وكل ما عليكم هو النظر إليها على أنها ظاهرة كونية!
هل قلتُ لكِ إنني تمكنت من سحق الساعات الطويلة التي تشكل الأيام والفصول والأعمار بدون أن أشعر؟! سوى لبرهاتٍ قصيرة لا تذكر، أن هنالك من يعتبر هذا سلوكاً ممتلئاً باللا اهتمام بالآخرين، بل زادوا قائلين “هو ليس هكذا وحسب، إنه يزدري الآخرين!”. ومن المؤكد أن ازدراء الآخرين ليس طبعاً من طباعي، ولا أشعر به كذنب من الذنوب التي إن أناخت علي ليلة حرمتني من النوم وملأت نومي بكوابيس ميتافيزيقية كرؤية الجنّ بأشكال ليست ببعيدة عن أشكالنا نحن، ورؤية اللصوص وهم ينفّذون سرقة ما وهم مطمئنون، وكأنه ليس من أحد في العالم يمكنه إيقافهم أو حتى الاحتجاج على سلوكهم، ورؤية بنت الجيران الممعنة في الماضي وهي/ هي، لم تتغيّر، لم تكبر، لم يضع الزمن على وجهها علامة كالعلامات الكثيرة التي نقشها على وجهي وفي سائر جسدي! وحتى في جواز سفري الذي أشعر بأنني أهتم لمصيره، ولكن زوجتي قالت مرّة وهي غاضبة علي وتريد منعي من سفرٍ تدرك عدم جدواه كغيره من الأسفار التي قمت بها من قبل، وأوهمتها أنها ستغيّر حياتي، بل أتذكر أنني مرة زدت في التبرير حتى أنني قلت “وهي أيام أقوم فيها بتجديد حياتي”. وما يجعلني أذكرها بهذه الدقة أنها ضحكت وسألتني “وهل تحسّ أنت بضرورة أن تجدّد حياتك؟”. وحين بدأت أحاول الردّ عليها متوثباً كالذئب أو كالقطّ الذي شاهد من يريد اختطاف أكله قامت وخرجت لغرض لا أدري ما هو، ولكنّ خروجها كان معناه سافراً وبمنتهى الوضوح، فهي تدرك عدم الجدوى من الحوار معي حول أمرٍ أعتزم القيام به. “وكيف ستسافر؟ وأنت بدون نقود وبلا صحة تلزم أي إنسان يريد السفر؟ بل ولا تحمل حتى جواز السفر؟” هي قالتها بطريقة أخرى “يسافر وهو حتى الجواز لا يملكه!”. وهذه الجزئية من الحوار المتصادم بقيت منقوشة في ذاكرتي و الآن هي جزء من تاريخي. أرى الآن (بول مارتن) الطبيب المفكر الفرنسي وهو يردد مقولة له اختطفتني من كل ما سواها من مقولات. كان شَعره الأبيض الغزير متهدلاً فوق كتفيه وهو يخطو جيئة و ذهاباً ويردد (إن مرض العصر ليس هو السرطان!) وأرى الآخرين الذين يستمعون معي إليه غير مبهورين فأشعر أن ثمة فارقاً بين المفرد و بين الجمع و أتابعه يقول بصوت مسرحي (كلا إن مرض العصر هو: الوحدة و.. العزلة و الوحشة!)!