جذب انتباهي اسم فضيلة الشيخ سعد بن ناصر الشثري على بحث متعلق بعلم أصول الفقه، وهو بعنوان (آراء الإمام ابن ماجة الأصوليّة من خلال تراجم أبواب سننه). ونظراً لسمعة الشيخ في تمكنه في أصول الفقه، وكونه عضواً سابقاً في هيئة كبار العلماء واللجنة الدائمة للإفتاء، وقد أُلحق باسمه وصف «الشيخ العلامة»، فقد تصفحت البحث سريعاً لمعرفة المنهج الفكري للشيخ - حفظه الله - فوجدت في البحث نقاطاً عدة تحتاج إلى مزيد من التمحيص والتأمل والتساؤل. وأمور كهذه ليس محلها مقالي هنا، وأنا منشغل بأمور أعم وأشمل. ولكن من بين مباحث هذا البحث وجدت مبحثاً مناسباً إيراده هنا كمثال؛ لما فيه من العبرة والفائدة، ولما فيه من وضوح الشاهد وسهولة رؤيته.
بحث الشيخ الشثري يدور حور استنباط آراء ابن ماجة في بعض المسائل الأصولية. ومن هذه المسائل مسألة «تخصيص العام بعلة الحكم». وبعيداً عن لغة الأصوليين القدامى التي يرددها كثير من الأصوليين اليوم وهم لا يفهمونها، فإن معنى تخصيص العام بعلة الحكم: هو زوال الحكم عن الأمر أو النهي الذي جاء به النص الشرعي بسبب زوال علته. مثاله: زوال حكم التحريم عن الخمر إذا نُزع منه الكحول، وذلك لزوال علته التي نص عليها نبينا عليه السلام، وهي الإسكار (فهو لا يزال خمراً لغة لا شرعاً). ولكن لا يزول حكم تحريم الخمر إذا زالت الحكمة من تحريمه كالصد عن الصلاة والبغضاء مثلاً.
وعودة لبحث الشيخ، فقد استشهد الشيخ بإيراد ابن ماجة حديث «لا يبولن أحدكم في مُستحمه فإن عامة الوسواس منه» ثم أورد تجويز ابن ماجة لهذا الفعل إذا كان التبول في حمام مبني من جص ونحوه، لإمكانية إزالة النجاسة بالماء. فاستنبط الشيخ الشثري رأي ابن ماجة بهذا فقال «ظاهر عبارة ابن ماجة تدل على أنه يرى جواز تخصيص العام بعلة الحكم المستنبطة، وهو قول لبعض الأصوليين». وهذا خلط واضح بين الذريعة والعلة عند الشيخ الشثري، جعله يقع في خطأين. الأول: نسبة رأي أصولي ضعيف لابن ماجة، لا تظهر نسبته له مطلقاً. والثاني تقريره بموافقة إمكانية تطبيق الرأي القائل بتخصيص الحكم بعلته المستنبطة، وإظهار وجاهة هذا الرأي. وهذا رأي ضعيف لا وجود تطبيقياً له، إنما هو ناتج من تنطع بالألفاظ أو خلط في مفهوم العلة كما حدث مع الشيخ الشثري هنا (وسأثبت هذه الدعوى بوضوح بمثال تطبيقي في آخر المقال). فالخوف من الوسواس ليس بعلة؛ فهو غير منضبط ولا ظاهر، بل هو الذريعة التي حُرم من أجلها التبول في المستحم. وأنا لن أخوض بجواز التعليل بالحكمة أو عدمه (فهو خلاف لفظي أيضاً ولا يلتزم به أحد عند التطبيق)، فالمبحث واضح أنه في القياس بالعلة، خاصة أنه نُسب إلى ابن ماجة رفض القياس كما ذكره الشيخ الشثري. فمن يتحرج في القياس كابن ماجة فلا شك أنه سيكون من أبعد الناس عن التعليل بالحكمة. ولو قيل إن قصد الشيخ الشثري هو التعليل بالحكمة لوجب التوضيح في البحث وذكر ذلك، فهو مبحث مستقل آخر، وله طروحاته المختلفة تماماً. فلا يجادل أحد أن المقصود في المبحث هو العلة القياسية، وأن العلة ليس لها مكان في شاهد الشيخ الشثري، وأنه قد خلط بينها وبين الذريعة، فهذا أمر واضح. والأمر لا يعدو أن ابن ماجة كان مسلماً على الفطرة، يزول حكم تحريم الوسائل عنده بزوال ذريعته، كما فعل الرسول وأصحابه في شواهد كثيرة (وأنا لي تنظيري في هذه الأمور القائم على تتبع السنة النبوية وآثار الصحابة بفكر بسيط مستقل عن التقليد، بأن العلة لا توجد إلا في أحكام الغايات، والذرائع تكون في أحكام الوسائل، وأن الفرق بين الحكمة والذريعة بأن الأقرب في الذريعة الزوال في العموم باختلاف الأزمنة والأمكنة، بينما الحكمة لا تزول في العموم باختلاف الأزمنة والأمكنة، وهناك فروق أخرى، ولكن ليس هذا محله، ولا ألزم الشيخ بتنظيراتي، ولا أناقشه إلا بما تعارف عليه الأصوليون).
والدرس الثاني المستفاد من الوقفة على هذا المبحث أن الشيخ قد قرر أن في تخصيص الحكم بعلته المستنبطة قولَيْن للعلماء، أحدهما الجواز وهو الذي نسبه لابن ماجة (وهذا الذي أشرت بأنه لا وجود له حقيقة فهو إما خلاف لفظي أو خلط)، والثاني عدم جوازه وهو قول الأغلبية، وهو رأي الشيخ الشثري. فلِمَ لا يُظهر الشيخ الشثري - (وهو الصوام) - علمه الذي يدين الله به للناس (وإظهار الحق في شرع الله خير من صيام الدهور) فيقول بأنه على رأيه ورأي الأغلبية فإنه لا ربا اليوم في النقود لبطلان علة الثمنية؛ لأنها عادت على الأصل وهو الذهب والفضة، فأبطلت حكم الربوية فيهما، وهذا دليل على بطلان علة الثمنية المطلقة التي اشتهرت اليوم. أو يقول إنه على رأي ابن ماجة ومن يرى رأيه فإنه لا ربا في الذهب والفضة اليوم لأنهما لم يعودا ثمنين، بعلة الثمنية المستنبطة التي رجعت على أصلها فأزالت الحكم عنها. (وهل من مسلم يقول بهذا القول الثاني؟ فينفي الربا عن الذهب والفضة أو أحدهما؟). فعلى مبحث الشيخ الشثري، فابن ماجة وجماعة يقولون بهذا!!! فهل ظهر للقارئ أن أصل النزاع في نقض العلة المستنبطة لأصلها هو نزاع بيزنطي لا حقيقة لوجوده، ولا يلتزم به من يراه عند التطبيق، ومن الخطأ إثباته ثم بعد ذلك نسبته لابن ماجة.
وزبدة الفوائد والعبر اليوم: هذا هو الشيخ الشثري فكيف بمن دونه في العلم والتقوى؟!
والأصوليون العمالقة كثيراً ما يخلطون عند التمثيل والاستشهاد لمنطقهم بين السبب والعلة والحكمة والذريعة والشرط والقاعدة والحد والشبه، فخلط الحُفاظ من الأصوليين عند النقل، فخلط الفقهاء بين هذه الأمور عند التطبيق في الفتوى؟ وهذا المقال مجرد مثل بسيط آتت به المصادفة، وإلا فمن تأمل كتب الفقه والأصول بتجرد تعبدي لله وحده بكى الشرع والشريعة. فالمفترض في الإسلام أنه دين بسيط، يفهمه الأميون، فلِمَ تنطعت الأمة به وتفيهقت به، وعجزت عن فهم أبسط أمور دينها، وضيعت أوضح معالم قواعد التفكير الفطري الإنساني السليم، فضلت عن مراد الشارع في استنباط أبسط المسائل، ثم انتصر كثير منهم لأنفسهم دون دين الله، فجحدوا الحق، وجادلوا فيه، فضلوا وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل.