لا تمر مناسبة يخاطب بها خادم الحرمين - أطال الله عمره - الشعب والمسؤولين إلا وأوصى المسؤولين بالمواطن وبتلمس حاجاته، ورغم ذلك يظل المواطن الحلقة الأضعف في كل ما يدور حوله. وتبرز من بين أهم هموم المواطن قضيتان رئيستان: العمل، والسكن. الأولى لتأمين مصدر الرزق، وهي حق مكفول بناء على النظام الأساسي للحكم..
..والثانية ضرورة إنسانية لا يختلف عليها اثنان. وما يؤسف له أن لنا سنوات طوالاً ونحن نطوف حول حمى حلول هاتين القضيتين، ولم نتوصل لحل ناجع لأي منهما.
البطالة، أو بعبارة أصح العطالة، أمر مدمر لأهم أسس المجتمع: الروح المعنوية لأفراده، وضياع جهود وسنوات الاستثمار في تعليمه، وشل قدرة المواطن على بناء أسرة له. ويمكن اعتبار البطالة بحق أم شرور المجتمع؛ فهي تدفع للتحايل، والجريمة، وجميع الممارسات غير النظامية؛ لأنها تفقد الفرد احترامه للمجتمع وأنظمته وأخلاقه وأعرافه التي يرى في محصلة الأمر أنها تهمشه. وحين تتفشى البطالة في مجتمع يوجد به ما يعادل عدد سكانه من العمالة الأجنبية فإن عدم حصول المواطن على حقه في العمل يعد أمراً مخالفاً بشكل صريح للنظام الأساسي للحكم، ويؤشر ذلك إلى اختلالات هيكلية جذرية في سوق العمل، بل ربما اختلالات اقتصادية وتخطيطية أخرى، لا ينفع معها التوفيق أو الترقيع؛ لأن ذلك يعني أن حق المواطن في العمل ذهب إما لأجنبي تستر عليه سعودي، أو لسعودي يشغل أكثر من وظيفة بغير حق. ولا يختلف الأمر إذا ما كانت البطالة هنا في قطاع عام أو قطاع خاص. وقد منحت الحكومة وزارات العمل المتعاقبة الفرصة بعد الأخرى لحل هذه المعضلة الخطيرة، والنتائج دائماً تأتي دون التوقعات استجابة لحلول غير حاسمة.
طالما اتهمت جهات العمل الخاصة الجامعات الوطنية في مخرجاتها؛ فابتعثت الدولة عدداً كبيراً من الطلاب لجميع أنحاء العالم التي تأتي منها الشركات لسوقنا، وتعلموا لغاتها، وأساليب معيشتها وعملها، بل أساليب لفها ودورانها، ومع ذلك لم يوظفهم أحد. وقد سبق واطلعت على مقال في صحيفة أجنبية يحض عمالة آسيا على العمل والتدرب في السعودية قبل انتقالهم لكندا، وأمريكا، وأستراليا؛ لأنها سوق تدريب مجانية جيدة لتوافر الأجهزة والمعدات الحديثة بها. يدربون شبابهم على أجهزتنا وفي مؤسساتنا، ويحرم منها شبابنا. فما السر في استعداد القطاع الخاص لدينا لتدريب الأجنبي وعدم الرغبة في تدريب السعودي؟ أعتقد أن الإجابة تكمن في أن بعض السعوديين، من فئة رجال الأعمال، اعتمدوا على وافدين لإنشاء وتشغيل أعمالهم لعدم توافر الخبرة لديهم، وبقوا هم واجهات مع الجهات الحكومية لجلب العقود، والحصول على القروض، واستخراج المستخلصات. فالوافد هو رجل العمل الحقيقي، والوافد يفضل العمل مع وافد آخر. هذه للأسف خطة العمل في الكثير من مؤسساتنا وشركاتنا، وبين (حانا ومانا) ضاع شبابنا. لذا فلن تجدي نفعاً حملات مطاردات العمال أو تسوية الفيز في حل هذه المشكلة؛ فلا زلنا نبحث عن الحلول في المكان الخطأ. والحل هو، وبدون أية مواربة، أن يمنع الوافد منعاً باتاً من ممارسة العمل في كثير من المهن التي تدر دخلاً جيداً، ويرغب بها الشاب السعودي. وعلى التجار والمقاولين تسوية أمورهم مع قطاع الشباب، إما بالإغراء أو التدريب. وكما يقال (الأحدب يعرف كيف ينام)، ورجال الأعمال من أذكى المخلوقات وأقدرها على التكيف، عندئذ سيطلب الوافد من تلقاء نفسه فيزا للخروج، ولا نحتاج لمطاردته. كما يجب حصر عدد الأنشطة التي يمكن أن تعمل بها مؤسسة واحدة، وتجب مراجعة أنشطة المؤسسات القابضة ذات النشاطات غير المحدودة وغير المحددة. باختصار، الحل يكمن في تمكين المواطن من احتكار الوظائف في وطنه، وهذا حق مشروع، لا ينازعه عليه أحد. وهنا يمكن أن نتوقف عن الحلول الرومانسية الافتراضية.
أما فيما يتعلق بالمشكلة الأخرى فهي في جوانب منها مرتبطة بالأولى، فسوق السكن مرتبط بسوق العمالة، وحصة الأسد من العمالة الوافدة: السائبة، ونصف السائبة، والمنتظمة شكلاً تعمل في قطاع الإنشاء المغري. وجانب الإغراء للوافد وغير الوافد في هذا القطاع هو الفوضى التامة؛ فلا أحد يعرف حتى على أي جهة تقع مسؤولية تنظيم هذا القطاع. المواطن يرزح تحت مبدأ الدفع مقدماً، وعندما يتم التنفيذ بعمالة تتعلم في بيت عمره لن يحصل على حقه أبداً؛ لأن المقاول، مواطناً أو وافداً، يطلب الشرع فوراً؛ لأنه يعرف أن الإجراءات الشرعية طويلة، وأن المواطن، مستثمراً أو ساكناً، لا قِبل له بها، ولن يتحمل توقف مشروعه السكني لمدة طويلة حتى يحل هذا الأشكال قضائياً حسب إجراءات القضاء المعمول بها. والعقود فوضى في فوضى؛ ليس لها تنظيم، أو أي أطر نظامية. المواطن المتستر والوافد المتستَّر عليه يعرفان ذلك جيداً؛ لذا فالعمالة الوافدة تعتبر سوقنا السوق المثالية للكر والفر.
حقيقة، لا أعرف ما دخل الشرع في أمور مثل اللياصة، أو النجارة، أو الدهان، أو أعمال الألمنيوم أو الحدادة وغيرها، فهي أمور مهنية بحتة، وليست من أحكام القصاص أو التعزير، أو حتى أمور الشرع المتعلقة بالأحوال الأسرية، وهي تتطلب خبرة مهنية خاصة أكثر من الخبرة الشرعية والقضائية، وغالباً لا يلم القضاة بها، بل إن بعضهم من ضحاياها. والقضاة في بلدنا مشغولون بأمور أهم وأكبر، وإشغالهم بأمور كهذه لا تحتاج لخبرتهم الشرعية ضياع لوقتهم الثمين، ويزيد من الضغط على مرافق القضاء، ويؤدي إلى إشغال المحاكم بأمور يمكن حلها خارجها، إما بتنظيم السوق أو إنشاء جهات مهنية لحل هذه النزاعات، تكون لها صلاحية مخولة بذلك عبر البلديات ومراكز الحقوق المدنية، مثلاً. ولكن في واقع الأمر، وأينما يممت: حقوق مدنية، وزارة عمل، وزارة تجارة، غرف تجارية، بلديات.. يحيلك الجميع للشرع بحجة عدم توافر الصلاحيات لديهم للفض في منازعات مهنية هم المسؤولون عن تنظيمها، وهم الأدرى بها. وقديماً كان شيوخ المهن يحلون الخلافات حولها، وكان لهم صوت قوي مسموع ومطاع.
وعموماً، تشكر وزارة التجارة في الآونة الأخيرة على جهودها في حماية المستهلك، وهي - بلا شك - أسهمت بانتظام كثير من الأمور لسبب رئيس، هو أنها اتخذت عدداً من القرارات الجادة والحاسمة بحق بعض المؤسسات الصغيرة والكبيرة؛ ما جعل الجميع يحسبون لها حساباً كبيراً؛ فاختفت تلقائياً كثير من الممارسات، واعتبر التجار من القرارات. ونتمنى، من قبيل مساهمة الدولة في مساعدة المواطن على بناء مسكنه، أن توكل تنظيم هذه الفوضى لجهة معينة، تسهم في حماية المواطن والمقاول، ففي جميع بلدان العالم يفرح الناس بقدرتهم على بناء مساكنهم، بينما يخرج المواطن من مشروع بناء مسكن عمره لدينا بالسكر، والضغط، وربما أمراض قلبية أشد نتيجة لهذه الفوضى الخنّاقة.