سبق وأن كتبت مطالباً بالتجنيد الإجباري للشباب. ومع مرور الوقت أزداد قناعة بأن هذه الخطوة فيما لو تمت سيكون لها انعكاس جيد في أكثر من اتجاه.
وقبل قرابة السنتين نشرت جريدة (الشرق الأوسط) خبراً عن أن مجلس الشورى يدرس مقترحاً يهدف إلى إقرار هذه الخدمة في المملكة. جاء في الخبر: (تدرس الهيئة العامة لمجلس الشورى في الوقت الراهن مقترح مشروع نظام «خدمة العلم» بناء على المادة 23 من نظام المجلس، والمقدم من قبل «المهندس سالم المري» عضو مجلس الشورى بلجنة الشؤون الأمنية، في خطوة لتقديمه إلى المناقشة والتصويت تمهيدا لإقراره في حال حصوله على أغلبية أصوات الأعضاء. وإن هذا المقترح وضع آليات وضوابط للتجنيد الإجباري بصورة مواكبة للعصر تهيئ شبابا سعوديا قادرا ليس فقط على الخدمة العسكرية بالجيش الوطني، وإنما أيضا على الخدمة المهنية.. كما لم يُحدد فترة زمنية محددة تقتضيها مدة التجنيد، وإنما أبقاها النظام مفتوحة قد تقتصر على 6 أشهر، أو تستمر لعام ونصف بحسب طبيعة وحال الأفراد، لكنه اشتمل على الأسس الهامة لخدمة العلم كفكرة وفلسفة والتي تنص على إلزامية الخدمة العسكرية في أي وقت حتى سن الأربعين، بغض النظر عن طبيعة مهنة كل مواطن).
ومنذ ذلك الحين لم نسمع عن هذا المقترح أية أخبار، ما يعني إمّا أنه رُفض، أو أُجِّل، أو اعترضته عوائق.
لا يمكن أن نتجاوز أن الشعور بالانتماء الوطني مقارنة بالانتماء القبلي أو المناطقي أو الطائفي متدن بشكل واضح وخطير. هذا التدني إذا تُرك دونما علاج ولم نهتم به ولم نأخذه كمشكلة على محمل الجد سيكون له على المدى البعيد آثار وخيمة؛ إذ ستحل قطعاً الانتماءات التقليدية الموروثة كالانتماء إلى القبيلة أو المنطقة أو الطائفة مثلاً محل الانتماء للوطن كأولوية مطلقة، وبلغة شعبية فإن الوطنية اليوم هي (الحميّا المعاصرة).
ودولتنا منذ أن أقامها وبنى كيانها الموحد الملك عبدالعزيز - رحمه الله - ورجاله المؤسسون ما تزال إذا ما قارناها بأعمار الدول الأخرى دولة فتية، فضلاً عن أن مفهوم الانتماء (للوطن) ذي الحدود الجغرافية المحددة غير القابل للزيادة ولا النقصان - كما هو مفهوم (الوطن - الدولة) اليوم - هو مفهوم جديد على الذهنية العربية التقليدية. ومن أجل ترسيخ وتكريس ثقافة الانتماء للوطن والمواطنة لا بد أن نعمل بجد لغرس وتكريس وتجذير هذا الانتماء الجديد، وجعل كل الانتماءات الأخرى كالانتماء للقبيلة أو المنطقة أو الطائفة، تتعايش معه، ولا تتقدم أو تتعالى عليه.
والتجنيد الإجباري يصب بقوة في هذا الاتجاه ويكرس هذه الغاية، خاصة إذا وضعت هذه الغايات كأهداف رئيسة في المناهج والمقررات التعليمية والتوعوية والتدريبية لمعسكرات التجنيد، وهُمّشت (بحزم) كل الدعوات (الحديثة) التي من شأنها أن تُضعف الانتماء للوطن، كثقافة (دولة الوحدة العربية) التي كان يعمل على تكريس الانتماء إليها القومجيون في الماضي، أو (دولة الخلافة) التي يسعى الآن إلى ترسيخها في أذهان النشء المتأسلمون المؤدلجون.
المهم أن ندرك أن فكرة التجنيد الإلزامي أو الإجباري أو (خدمة العلم) للشباب ليست فقط مجرد تدريب على السلاح لإنشاء قوة عسكرية احتياطية للدفاع عن الوطن نستعين بها في حالة الأخطار كما يتصور كثيرون، وليست كذلك مجرد تعويد للشباب على الانضباط وتكريس ثقافة الجدية والخشونة في شخصياتهم فحسب، وإنما - أيضاً - ومن خلال معسكرات التدريب هذه يجري ترسيخ، وبشكل موازٍ للتدريبات العسكرية والمهنية والانضباط، ثقافة (الوطن) والانتماء له والذود عن حدوده كما كان الأجداد يذودون عن قبائلهم أو قراهم أو طوائفهم؛ فالمتدرب الشاب في معسكرات التجنيد سيكون كالعجينة الطيّعة التي تشكلها كما تريد.
ومن خلال معسكرات التجنيد هذه، والتثقيف والتوعية المكثفة فيها، ستنشأ أجيالٌ يكون انتماؤها للوطن هو الانتماء الأول الذي لا يعلو عليه أية انتماءات أخرى فرعية، سواء كانت تلك الانتماءات محلية موروثة، أو خارجية دخيلة.
إلى اللقاء.