كان الانطباع السائد في بداية «الربيع العربي» أنه سيؤدي لمزيد من الحريات والحقوق، لكن خالفته لاحقاً الوقائع وأحياناً ناقضته. صحيح أنه من المبكر جرد غلة الحصاد النهائي، فالثورات تحتاج أكثر من ثلاث سنوات للحكم عليها، لكن هذه المدة كفيلة برصد أولي.
يذكر تقرير مركز بيو للأبحاث (يوليه 2013) أنه عندما اندلع الربيع العربي نهاية عام 2010، ساد الاعتقاد بأنه سيؤدي لمزيد من الحرية السياسية والاجتماعية والدينية، لكن الدراسات أظهرت أنه على الأقل من ناحية الحرية الدينية، لم تكن القضية كذلك. فالحريات من الأنظمة الجديدة لم تزد، بينما القيود والأعمال العدائية من داخل المجتمع زادت؛ فثمة فئات اجتماعية زادت القيود أكثر من النظام السياسي!
دراسة بيو التي تسجل مؤشر القيود الحكومية لـ198 بلدا، ومؤشر آخر للأعمال العدائية الاجتماعية، وجدت أن القيود الحكومية على الدين بالمنطقة طوال عام 2011 ظلت على نفس الوتيرة السابقة، بينما الأعمال العدائية الاجتماعية المتعلقة بالدين تضاعفت؛ إذ زاد عدد البلدان بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي كانت موطناً لأعمال العنف الطائفية أو الجماعية من خمسة عام 2010 إلى عشرة بلدان في 2011..
كثير من وسائل الإعلام صورت الانتفاضات السياسية بالشرق الأوسط على أنها ذات أسباب متشابهة تتمثل في طلب الحرية من شباب بارعين بالتكنولوجيا، لكن الدراسات الاستقصائية عن المنطقة ترسم صورة مختلفة تماماً، حسب إحدى مؤسسات البحث الرائدة بجامعة كمبريدج (برنامج التقلبات العالمية) التي أجرت مسحاً واستطلاعاً للرأي رصدت من خلاله تطور الرأي العام في 18 دولة عربية طوال سنة 2011، استخدمت فيه مزيجا من الاقتراع على شبكة الإنترنت والمسوحات واللقاءات المباشرة وتم تتبع تغيرات الأجوبة منذ الأيام الأولى من الربيع العربي.
أظهر الاستطلاع أن أولويات المطالب تفاوتت على نطاق واسع بين المحتجين بجميع أنحاء المنطقة المدروسة.. واختلطت الدوافع السياسية بالدوافع الاقتصادية.. وأن المشاركين بالاحتجاجات كانوا من أنواع مختلفة، ولهم تطلعات سياسية متنافرة عن بعضها البعض. ومن المثير، رغم كل التغطية الإعلامية أن الاستطلاع أظهر أن الفئة العمرية فوق سن 35 هم أكثر قليلاً من الشباب بالمشاركة الاحتجاجية، حيث أعربت هذه الفئة عن قلقها إزاء البطالة حتى في البلدان التي لم تشهد احتجاجات كبيرة. والأكثر إثارة أن معارضي الإصلاح انخرطوا أيضاً باحتجاجات الربيع العربي!
انخراط معارضي الإصلاح والمتشددين باحتجاجات الربيع العربي سيكون له بالغ الأثر على تطور الأحداث، خاصة أولئك المؤيدين لحركات العنف المتشددة. فأي نوع من التغيير يطالبون به!؟ مزيد من القيود؟ إذن، ليس غريباً أن يحصل ارتباك حاد بديمقراطية هذا الربيع. كثير من ممثلي مكونات المجتمع يطالب بإصلاح أوضاعه ويضع قيوداً على مطالب الآخرين.. والبعض يطرح مشاريع استبدادية.. وبعض المضطهدين السابقين تحولوا إلى جلادين بشرعية صندوق الانتخابات.
هل اضطهاد الأنظمة السابقة جعل من التقوقع الفئوي لكل جماعة، ومن ثم الشك المتبادل بين الأطراف السياسية والاجتماعية سمة أساسية يصعب معها تقديم التنازلات المتبادلة وعقد التسويات للحلول الوسط من أجل الاستقرار؟ فتغير النظام يتطلب تغير طريقة الأداء التي بدورها تتطلب تغير طريقة التفكير، أو كما أوجزها غاندي: «روح الديمقراطية ليست شيئا ميكانيكياً نعدله بإلغاء شكل النظام. أنها تتطلب تغيير القلب!»
نوح فيلدمان، (أستاذ القانون بجامعة هارفارد، ومؤلف كتاب «الحرب الباردة: مستقبل المنافسة العالمية») يرى أن من أهم الدروس بعد ثلاث سنوات للربيع العربي هو: «أن عقد التسويات يمثل أحد أهم المهارات لطبقة سياسية تسعى للاستقرار الديمقراطي. كان للزعماء الجدد بتونس خبرة قليلة نسبياً.. ولكن الثقافة السياسية للتوافق في تونس تعني أن جميع الأطراف تطمح إلى اتفاق... في ليبيا القذافي، كانت القرارات مفروضة ببساطة من فوق، لذلك لا أحد يشعر اليوم بضغط كبير لأجل النضال للتوافق... في مصر، حيث ولد الإسلام السياسي، كان النظام يعامل دائماً الإخوان المسلمين كتهديد وجودي؛ لذا بالنسبة للعلمانيين، كان من الطبيعي أن يجدوا صعوبة حل وسط معهم حتى بعد انتخابهم. هذا قاد العديد من العلمانيين لدعم الاطاحة بهم حتى عندما يعني ذلك بوضوح احتمال العودة الى الديكتاتورية العسكرية...»
يذكر الباحث فابيو ميرون، (جامعة دبلن) المتخصص في السلفية التونسية: «أن التحدي الرئيسي لأي حزب إسلامي في الوقت الحاضر ليس فقط كسب الانتخابات، ولكن إقناع أنصار هذه الدولة الأساسية [العميقة] أن لديهم مصلحة ويمكن دمجهم في بناء الدولة بعد الثورة، دون تهديد أعلى قيمها. يمكن أن تتولد الثقة بين هذين المكونين المتناقضين اجتماعياً وسياسياً من خلال ضمان كل طرف للآخر حسن نواياه. هذه العملية لبناء الثقة أمر ضروري خاصة مع التحول من الدكتاتورية إلى الديمقراطية، وهي فترة من الطبيعي أن يعتقد الخاسر بأن الفائز لن يعطيه فرصة أخرى في العملية الديمقراطية..»
المشكلة ليست فقط أنه لا توجد تطمينات كافية، بل ثمة مؤشرات توحي بالعكس بين الأطراف المختلفة وتربصها ببعضها البعض. في مصر، مثلاً، فاز الإخوان المسلمون بالانتخابات فقاموا بعملية استحواذ تدريجي.. وبعد شد وجذب انقلب عليهم العسكر بتأييد من الأطراف الآخرى التي خشيت من استحواذ الإخوان وإقصائهم لهم.. فتم إقصاء الإخوان بالكامل!
خلاصة وقائع الربيع العربي المدعومة بالاستطلاعات والدراسات تكشف أن القيود على الحريات لم تكن بسبب الأنظمة السابقة بالدرجة الأولى بل أيضاً من فئات المجتمع.. كثير من الفئات تريد الحقوق والامتيازات لها وحدها على حساب الآخرين. يمكن ملاحظة ذلك بدءاً بما نجده من شدة التعصب والاحتقان والإقصائية بين الأطراف المختلفة، كما في حوارات مواقع التواصل الاجتماعي بالإنترنت ونهاية بما نجده من أعمال عنف طائفي مرير كما في العراق وسوريا..
إذا كانت كثير من الفصائل السياسية والجماعات المذهبية والإثنية داخل أغلب البلدان المتحولة تبدو غير جاهزة لنظام وطني جديد يحمي جميع الفرقاء ويمنحها حقوقها الأساسية على قدم المساواة، فإن المطالبة بالديمقراطية تغدو ترفاً باذخاً يصعب على الربيع العربي تحقيقه، إلا إذا كانت ديمقراطية منتقاة ومجتزئة تكتفي بصناديق اقتراع يظن فيها الناخب أن الحقوق تمنح للفائز وتهدر للخاسر.. يقول جون كينيدي: «جهل الناخب بالديمقراطية يمس أمن الجميع!»