يقال أن العالم أصبح قرية واحدة وأنه لم يعد هناك احتكار للعلم والمعرفة والخبرة، ويقال أيضا أن الخبرة والتجربة والمعلومة أصبحت متاحة للجميع وفي متناول أيديهم. بمقدور أي إنسان الحصول عليها حيثما كان وفي أي وقت أو زمان. وطالما أننا كأي مجتمع نطمح في تحسين أدائنا وإنجاز أعمالنا بالجودة والسرعة والتكلفة المناسبة فما بالنا لا نستثمر خاصية العصر هذه ونستفيد من محاكات التجارب الناجحة في قطاعات التنمية المختلفة. لم يعد هناك حاجة لإعادة اختراع العجلة بل لا أبالغ إذا قلت إن هناك قطاعات تنموية قد لا نحتاج فيها للإبداع، وكل ما علينا هو أن نسترشد بما فعله المبدعون ونحاول محاكات تجاربهم الناجحة.
قد يقول البعض أن معضم التجارب الناجحة في مجال التنمية والخدمات توجد في بيئات جغرافية تختلف عن بيئتنا من الناحية الحضارية والموروثات الاجتماعية وبالتالي فإن استيراد قصص النجاح من تلك المجتمعات وتكييفها مع بيئتنا الاجتماعية يشوبه كثيراً من التحديات ويتطلب عملاً وجهداً كبيراً. لعلنا ولهدف الطرح هنا نسلم بهذا الرأي - وإن كان ذلك موضوعاً جدلياً- ولكن نقول في المقابل أن هناك تجارب وقصص نجاح إقليمية وفي مجتمعات مجاورة لنا تمثل امتداداً لمجتمعنا بأركانه الدينية واللغوية والحضارية والتنموية حتى في عاداته الاجتماعية وفي الملبس والمأكل. فما الذي يحول بيننا وبين الإفادة مما لديهم من تجارب ناجحة في ميادين الخدمات والإنتاج.
كم كنت أتمنى أن تستفيد إدارة المرور لدينا من خبرة إدارات المرور في دول الخليج وتحاكي تجاربها الناجحة في إدارة الحركة المرورية. كم كنت أتمنى أن تستفيد إدارة المرور من التجارب الناجحة لشقيقاتها الإدارات الأخرى في وزارة الداخلية السعودية والتي تتعامل في ذات المجتمع ومع نفس البشر.
هناك تحسن ملحوظ في عدد من القطاعات في وزارة الداخلية على الرغم من أنها تتعامل مع ذات المجتمع ومع نفس البشر. الأحوال المدنية -على سبيل المثال- تؤدي خدماتها بشكل حضاري، ومنظم طوعت التقنية لخدمة المراجعين واستطاعت تحقيق درجة عالية من الانضباط بين جموع المراجعين. هؤلاء المراجعين الذين يظهرون بشكل منضبط وحضاري وهم يصطفون في مسار الخدمة وفي انتظار استكمال إجراءات معاملاتهم هم أنفسهم -عندما يخرجون من إدارة الأحوال - يقودون سياراتهم بطريقة غير حضارية. حتى أصبح البعض من المواطنين والمقيمين يعد القيادة في مدينة الرياض معركة تفضي إلى خسارة الكل. ولن يستغرب من هذه التسمية من يدرك أن المملكة احتلت المركز الأول عالمياً في حوادث المرور. (ملحوظة: في المجتمعات الأخرى يطلقون على أموات الحوادث قتلى وننعتهم نحن بالوفيات!!!)
في الرياض على سبيل المثال توقف سيارتك حيثما تريد، توقف سيارتك أمام المسجد أو أمام أحد المحلات التجارية فتفاجأ بأن أحدهم أوقف سيارته خلفك وغادر المكان. تسير في أحد مسارات الخدمة فتفاجأ بأن الثلاث مسارات قد تحولت إلى مسار واحد بفضل وقوف الآخرين في المسارين الآخرين. ترى كثيراً من الحالات التي يسير فيها قائد المركبة عكس اتجاه السير أو يقفز على الرصيف، يزعجك من خلفك بومضات أنواره ويصارعك على من يمينك لدخول الدوار...الخ، هي حقاً أشبه ما تكون بمعركة غير منضبطة. ومن المؤسف أن معظم هذه المخالفات تحدث على مرأى من رجل المرور ولا يكترث لها وكأنها أصبحت عرفاً مقبولاً. وكأن الانظباط أصبح استثناءً ومخالفة النظام هي القاعدة. حقيقة لا أعرف سبباً لذلك.
ومن أغرب الحالات التي تعرضت لها شخصياً أن أحد رجال المرور نصحني عندما كنت أسير في طريق الخدمة في طريق الملك فهد بأن أقفز الرصيف لكي أتحاشى الازدحام المروري!!!! وكأنه تطور من مرحلة الإهمال واللامبالات إلى تشريع الأخطاء ومخالفة الأنظمة!!!.
لابد هنا من التذكير بأن هذا لا ينطبق على جميع رجال المرور، ففيهم الأخيار، ولكن العلة في المنهج والتنظيم والآلية.
الذي أردت التأكيد عليه هنا أن دعوى البعض بأن علة ومعضلة المرور لدينا تعود لسلوكنا الحضاري دعوى في غير محلها، والدليل على ذلك هو انضباط مواطنينا والتزامهم في تطبيق الأنظمة عندما يقودون سياراتهم -لا أقول في الدول الغربية - بل في الدول المجاورة، واحترامهم للأنظمة عندما تطبق بشكل حضاري هناك، وفي الأحوال المدنية السعودية وغيرها من القطاعات المنضبطة داخل المملكة وخارجها.
ولما عرف عن القائمين على إدارة المرور من وطنية وإخلاص وليقيني بحرصهم على سلامة المواطنين والمقيمين وعلى تيسير حركة المرور وعلى تغيير الصورة غير الحضارية للحركة المرورية، ولقناعتي بعدم رضاهم عن النهج المروري، فكلي أمل منهم أن يقوموا باتخاذ ما يلي:
1- التوقف مع النفس وإعادة هيكلة إدارة الحركة والمرور أخذاً في الاعتبار المفهوم والآلية والقوى العاملة.
2- قراءة تجارب إدارات الحركة والمرور في ا لدول المجاورة ذات البيئة الاجتماعية المشابهة ومحاكاة الناجح منها، فهذا هو المنهج الحضاري العملي العلمي، وهو مؤشر على المهنية أكثر منه دلالة على الضعف والتخلف، وهو أصل في شرعنا لأن الحكمة ضالة المؤمن حيثما وجدها فهو أولى بها.
والله الهادي إلى سواء السبيل.