إن كنا نستشعر الغبن والألم إزاء ما نراه من فرق شاسع بيننا وبين الغرب المسيحي في نظم العدل والإنصاف وإحقاق الحقوق، فلابد أن نستحضر المسافة الزمنية التي استوعبت مراحل التغيير في الفكر والوعي، هذا مهم جدا كي لا نبحث عن مبررات دينية أو ثقافية قد تربك خطانا أو تبعثر جهودنا.
فالدولة العربية لم تنشأ إلا منتصف القرن الماضي، هذه حقيقة يجب التسليم والأخذ بها في أي قراءة فكرية للواقع، ويفترض ألا ندخل التاريخ حتى لا نخلي السطور من مضمونها، فالتاريخ يشهد بوجود العدالة الاجتماعية لدينا يوم كان الغرب المسيحي يستعبد بعضه بعضا، ثم إن هذه الدولة العربية حديثة النشأة لم تنعتق من الاحتواء الأجنبي حتى الآن، وعلاوة على هذا ترزح المنطقة وتئن تحت وطأة شديدة ومتتالية من الأحداث الخطيرة المهددة لأمنها وسلامتها بشكل مستمر وشبه دائم، مما يجعل كثيرا من الاستحقاقات عسيرا وصعب التحقيق، رغم وضوح الحاجة إليه، فالنظم الحاكمة يفترض أنها وصلت للحكم بإرادة وطنية تواقة للتخلص من الجهل والتخلف وفي نفس الوقت تواجه نشاطا سياسيا قويا للاحتواء من قبل قوى سبقتنا في مضمار التقدم والتحضر الصناعي والتنظيم الاجتماعي والبناء الاقتصادي، وهي راغبة في تحقيق طموحاتها وإن تعارضت مع مصالحنا وطموحاتنا، وفي الخلاصة يظهر أن ما تواجهه الدولة العربية في سبيل تحقيق أحلام شعبها يتلخص في إدارة المواءمة والتوازن بين أمرين، الأول: التفاوت والتناقض في الوعي الذي ما زال يحكم فكر البعض في المجتمع ويعطل انطلاقها أو يربكها، والثاني: طموح القوى الدولية في تحقيق مصالحها على حساب الآخرين بقوة حاضرها، وإزاء كلا الأمرين لا يمكن للنظام العربي أن يتقدم بالفكر والوعي الاجتماعي دون أن يوائم بين هذين الأمرين لخلق منافذ آمنة للتقدم نحو الأمام.
ولعلنا نتذكر عندما ظهرت القاعدة بفعل الصحوة الفكرية الإسلامية لتنطلق خارج إرادة السياسي المهتم بضرورة الموائمة بين كفتي تفاوت الوعي أو تناقضه من ناحية والطموحات الدولية، من ناحية أخرى كان أثر فعلها غاية في الخطورة، وإن بدا في الظاهر وكأنه عمل بطولي أبهر وربما جذب كثيرين ولقي تأييد آخرين، بيد أنه عطل مسار التقدم وأعاده للخلف مسافات زمنية كبيرة، فأعيد احتلال أفغانستان والعراق والصومال وتم تقسيم السودان، واحتاج الأمر إلى امتصاص الصدمة وإعادة كفتي التوازن الإستراتيجي للأمن والاستقرار إلى تفعيل وتقوية ظهور الليبرالية المتغربة من خلال وسائل إعلام جديدة وأقلام صحفية، إلا أن هذه أيضا شطّت بعيدا حتى أصبحت في بعض الأحيان كأنها لسان غربي فصيح، وقد يكون ذلك تحت قاعدة الفعل ورد الفعل المعاكس وبقوة أكبر، إلا أن المتضرر الحقيقي من كل ذلك هو الأمن والاستقرار لمسار النمو الفكري والتحضر المجتمعي، وقد يمكننا القول إن ثورات الربيع العربي كانت نتاج هذا التخلخل في كفتي التوازن المتفجر أصلا من داخلها، فسقطت نظم عربية وبقت أخرى تهتز وأخرى ربما وجدت نفسها مضطرة للمرة الأولى لمواجهة صريحة لحماية أمنها وسلامة استقرارها.
وحين يظهر من يقارن بين حال الدولة العربية ومثيلها في الغرب من حيث العدل والإنصاف وإحقاق الحقوق دون أن يتأمل واقع نشأة الدولة العربية والمسافة الزمنية المشكلة لهذا الواقع، ثم يتكئ على ثقافة أو معتقد ليبحث فيه الأسباب فإنه في اعتقادي لن يصل إلى قراءة منطقية، فالعدل والإنصاف وإحقاق الحقوق والمساواة وتحقيق الحريات لم يعد بحاجة إلى اكتشاف أو انتظار وحي من السماء، بل إن عصر التقنية والإلكترون صار يفرضها فرضا دون خيار للإنسان تحت أي ثقافة أو معتقد، ومن يتجاهل حتمية وجودها كأنما يغمض عينيه ويصم أذنيه ويتحدث بلسان قرون خلت، لذا فلا يعيق ذلك في ظني إلا استشعار أهمية وضرورة عملية التوازن بين الأمرين السالف ذكرهما، وهو ما يتوجب علينا الالتفات له والبحث فيه.
إن الدين والثقافة براء من تكلّس العقول والضعف واستبداد الأقوياء، وإذا كنا نسعى إلى تحقيق أفضل النظم التي تتسع لحماية الإنسان وحقوقه لا بد أن نبحث أفضل السبل وأجودها في تحقيق عملية المواءمة والتوازن بين المؤثر الداخلي والخارجي، بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر أو يؤثر فيه، وأقرب مثال يمكن أن نستعيره لتوضيح خطورة ذلك هو الفكر المتطرف في كلا الجانبين، ذاك الذي صنع القاعدة، وذاك الذي صار لسانا غربيا مبين، وأوضح نتيجة يمكن أن نستشفها من هذا التعارك بين الطرفين المتطرفين نراه في ظهور التخلخل في الوعي والفكر بين أفراد المجتمع الواحد وهو ظاهر وبشكل واضح في وسائل الإعلام والتواصل الإلكتروني، الأمر الذي يعطي مؤشرا ولو خفيا عن خطورة اختلال ميزان المواءمة والتوازن بين الداخل والخارج، وإذن هي هندسة فن الممكن بالوقت المناسب دون تأخر أو إبطاء أو استخدام المؤثر الداخلي والخارجي في اعتقاد خاطئ أن يغير المنطق قواعده.