تلقي برحلك هناك في البعيد؛ في أقاصي الدنيا، عند من لا يعرفك ولا تعرفه، ولا يفهمك ولا تفهمه!
تريد أن تغترب!
هكذا قلت!
تريد أن تكون شيئا آخر مختلفا؛ تظن وأنت تشد عزائمك على الرحيل أن عالماً مثالياً زاخراً بكل تفاصيل التقدم والانضباط والدقة والإخلاص والمثابرة على الإنتاج والتطلع إلى التفوق في العلوم والمعارف والاكتشافات ينتظرك!
تأففت كثيراً هنا؛ فلم يكن يرضيك المستوى الهزيل من التلقي، ولم تكن مرتاحاً لتسيد رؤى التقليد، ولا مستجيبا لدعوات التطرف التي كانت تلاحقك في مدرستك وتسترق عليك أوقاتاً أخلصتها لدرسك وتحصيلك وتفوقك فحسب!
كنت تقص علي قصصا شتى مما يصادفك من ترغيب وترهيب أولئك؛ ليأخذوك في رحلة أو ينطلقوا بك في منشط؛ فكانت إجابتك الصدود المطلق والعزلة إلا من رفقة طيبة معتدلة تتلاقى معك في الجد والتحصيل.
وكنت تصول وتجول بين المواقع والصفحات؛ فترد على هذا وتصد ذاك، وتشتد في اللائمة على من يضعون العصا أمام عجلة الحياة، وتحتد على من يريدون القطيعة المطلقة مع الثقافات والحضارات الإنسانية.
ها أنت بين من كنت تمتلئ إعجابا بكثير من وجوه حضارتهم وتقدمهم ووصولهم إلى رؤى وضوابط تحكم حياتهم؛ فلا تضيق عليهم ولا تدع لحرياتهم أن تُنتقص؛ فماذا وجدت ؟!
كنت تعبر إلى حضارات وثقافات شتى عبور السائح المسافر على عجل؛ فلا يمكنك الوقت اليسير الذي تقيمه بين تلك الثقافات كي تخلص إلى تقييم منطقي دقيق وعادل؛ وإن كنت تذهب في كل مرة تكون في هذه الدولة الأوربية أو تلك إلى الموازنة بين ما هم عليه من وجوه التحضر والمدنية وما نعانيه نحن من قصور ونقص واضطراب في الرؤية حول ما يجب أن نأخذه أو ندعه، وما يتفق وما يختلف، وما يحسن وما لا يحسن؛ فتأسرنا هذه المعارك الكلامية السجالية في ساحاتها دون أن ننعتق من إسارها ونخطو في طريقنا الذي يجب علينا أن نسلكه كما سلكته الأمم المتحضرة من قبلنا!
ها أنت اليوم بينهم؛ فماذا وجدت بعد أن تذوقت مرارة الغربة وألم البعد، وفقدت لذة السكينة وأمن النفس وطمأنينة الروح بين أهلك ومجتمعك؟!
أنت الآن وحيدا فريدا إلا من هواجسك وخواطرك التي لن تدع للهدوء إليك سبيلا، وإلا من قلقك الذي يستبد بك ويجعلك دائما في منطقة الحيرة ونقطة عدم القدرة على تحديد الاتجاه أو العزم على رأي؛ فهل سترضى كل الرضا عمن بلغ بك الإعجاب بهم كل مبلغ؟ أم أنه قد صادفك منذ أيامك الأولى في غربتك من المواقف والعثرات وفقدان المعين والمساعد وشعور عنيف بالوحدة على الرغم من الضجيج وبالعزلة على الرغم من أنك وسط الزحام في قطارك الذي يقلك إلى جامعتك، ووسط آلاف الطلاب والأساتذة من كل جنس ولون وبلاد!
هل وجدت القوم كما كنت تحلم وتقرأ وتفكر وتوازن وتدعو؟!
أم أنك وجدت نتاج الحضارة شيئا وصانعو الحضارة شيئا آخر؟! هل وجدت قيم الحضارة حية نابضة تمشي على الأرض؟ أم وجدتها أمثولات وحكايات وشعارات لا صلة لها بالحياة ولا بالأحياء يتغنون بها كما نتغنى؟!
ها أنت رقم جديد عابر من أرقام أمة بني يعرب ممن وفدوا على الغرب يتعلمون منهم ألف وباء العلوم والمعارف منذ أول بعثة عربية ابتعثها محمد علي باشا 1838م إلى يومنا هذا؛ منذ رحل رفاعة الطهطاوي وعلي مبارك وخير الدين التونسي وطه حسين ومحمد حسين هيكل وغيرهم من تلاميذ العرب ليلتحقوا بجامعات الغرب؛ فماذا صنعنا منذ ذلك التاريخ السحيق وماذا أنجزت أمم رحلت أبناءها بعدنا إليهم كاليابانيين والكوريين؟!
أريد من حلمك الناقد المتأفف الذي يسكنك ويسكن كثيرين من جيلك أن يتحول إلى فكر يقظ؛ يهدم ويبني، يميت ويحيي؛ فكر جديد يؤسس لنهضة أمة.