حلقة الأستاذ داوود الشريان في (الإم بي سي) عن المحرّضين على الجهاد في سوريا، سواء كانوا ممن يدعون مباشرة وصراحة إلى الجهاد هناك، أو من يضعون رجلاً هنا ورجلاً هناك، وعند المحاسبة يتملّصون من تلك ليستثمروا الأخرى كما هي عادة بعض المراوغين من مشايخ الصحوة.. وكما هو مشاهد فقد أحدثت تلك الحلقة دوياً هائلاً وردّة فعل مؤثرة بشكل لم يسبق له مثيل؛ و واجه هؤلاء - ربما لأول مرة - مآلات تحريضهم وخطبهم ولعبهم على العواطف وتوظيف التراث في مشاريعهم السياسية. واستطاع هذا الإعلامي المتمكن بلغته المباشرة والسهلة والموثقة بشهادات من تورّط فلذات أكبادهم في ما يسمّى (الجهاد) في سوريا أن يصل إلى الجميع، ويضع النقاط على الحروف؛ فليس من سمع عن المعاناة مثل من عرف آلامها وتجرّع مرارتها وفقد قريباً أو حبيباً بفعل هؤلاء المحرّضين الانتهازيين.
وأنا هنا لست ضد الجهاد المشروع في الإسلام؛ ولكن للجهاد الشرعي شروط وضوابط إذا لم تتوفّر لا يصبح جهاداً؛ وعلى رأس هذه الشروط أن يُعلن وليّ الأمر (الجهاد) لقوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ} .. ولقوله صلى الله عليه وسلم :( وإذا استنفرتم فانفروا). والدعوة إلى النفير من الولايات (الحصرية) للإمام لا يُنازعه فيها منازع. أما ما يُمارسه الحركيون اليوم وما يُزايدون عليه فهو افتئات على سلطات وليّ الأمر وتعدٍّ صريح على صلاحياته؛ ومن يقول به من الحركيين والصحويين وبقية (المبتدعة) المعاصرين وأمثالهم، هو كمن يُجيز للمأموم في صلاة الجماعة أن يُخالف الإمام؛ كأن يركع قبل أن يركع الإمام أو يسجد قبله مثلاً. ولم يعرف دين الإسلام مثل هذه البدع إلاّ بعد أن تم (تثوير الإسلام)، واتُخِذَ من مفهوم (الجهاد) وسيلة ثورية للتمرُّد على وليّ الأمر - (الإمام) - والانشقاق عليه. لذلك فإنّ ما مارسه المؤتمرون في القاهرة عندما كانت جماعة الإخوان تحكم مصر، وشارك في ذلك المؤتمر - للأسف - سعوديون، ونظّمته (رابطة علماء المسلمين) الحركية، وتم فيه إعلان (النفير والجهاد) في سوريا، هو (افتئات) محض على سلطات وليّ الأمر من الناحية الشرعية؛ وكان من المفروض أن يُحاسب من شارك فيه من السعوديين حساباً رادعاً؛ لأنّ ممارسة كهذه هي في حكم الانشقاق على الإمام، وتدخل في قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عبادة بن الصامت رضي الله عنه (وألا ننازع الأمر أهله)؛ فأمر الجهاد والدعوة إلى النفير هي من الولايات الشرعية للإمام، وعندما تُنافسه عليها، أو تدعوها لنفسك أو لحركتك أو لحزبك أو رابطتك، فأنت ضمنياً كمن يتمرّد على البيعة. هذا ما انعقد عليه إجماع أهل السنّة قبل أن يتلاعب في مفهوم الجهاد وشروطه أصحاب الحركات السياسية المتأسلمة ويحيدون به عن أهدافه وينسفون ضوابطه التي نصّ عليها الفقهاء طوال القرون الماضية.
مما تقدم فإنّ داوود الشريان عندما شنّ هجومه اللاذع والجريء على المحرّضين على الجهاد في سوريا ومن يدفع الشباب إلى الموت في تلك الفتنة، كان مُتسقاً تماماً مع ضوابط الشرع الحنيف؛ ودع عنك كل من يزايدون ومن يحرفون الكلم عن مواضعه.
وإذا كان أحدهم قد هدد داوود بالمحاكمة على اعتبار أنه لم يؤيد الجهاد في سوريا، فهو إما أنه قد نسي (تاريخه) القريب والبعيد، أو أنه يظن أنّ مواقفه الملتبسة عن قصد وتعمُّد، ناهيك عن تناقضاته وتذبذباته ومراوغاته، قد انطلت على الناس؛ وأنا - بالمناسبة - ممن يتمنى أن (يصمل) من هدد ولا يتراجع؛ لأنّ هذه المحاكمة فيما لو حصلت ستكون محاكمة لتيار الصحوة وتاريخها ورموزها، وهو ما نحن في أمسّ الحاجة إليه ليعلم الناس تاريخ هؤلاء ومدى تماهيهم مع ضوابط الشرع الحنيف الذي يدّعون أنهم يلتزمون به؛ ناهيك عن المآلات (المميتة) والتدميرية التي أوصلوا شبابنا إليها.
إلى اللقاء ..