زودني أحد المحبين بملف أنيق يحتوي على مجموعة أوراق مصورة تتضمن مقاطع من أشعار الشاعر الشعبي الكبير عبدالله اللويحان -رحمه الله-، وسرني تزويدي بهذه المقاطع المختارة من شعرعبدالله اللويحان، وهذا لا يعني أنني من المهتمين بما تحفل به صفحات الشعر الشعبي الهزيل. ولكني أتابع ما ينشر من أشعار الأوائل أمثال محمد السديري ومحمد القاضي وعبدالله اللويحان الذي عاصرته منذ عام 1370هـ وكنت في مطلع الشباب، وقد تميز لويحان في مجال الشعر الشعبي خصوصاً ما يسمى شعر الرد. وفي بداية تأسيس وبث الإذاعة السعودية في أواخر عهد الملك عبدالعزيز - رحمه الله - كان المستمعون ينتظرون بمزيد الاهتمام موعد ما يبث من الإذاعة بصوت لويحان المميز والمؤثر في الوجدان، وعلى صعيد النشر صدر له ديوان (روائع من الشعر النبطي) عام 1400هـ وقد كتب مقدمته علاّمة الجزيرة الشيخ حمد الجاسر - رحمه الله - مما يدل على أهميته وقيمته الأدبية، وقد طبع في مطابع القوات المسلحة بأمر من صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز - رحمه الله - والشاعر القدير في كثير من الأحيان يربط بين الإنسان والمكان ومثال ذلك بيت لويحان الذي يقول:
الله يعنيك يا زول نطحني بأيمن السوق
بالمدعي حدر يم سوق الجودرية
وكما هو معلوم (المدعي) و(الجودرية) من أقدم وأشهر أسواق مكة التجارية المركزية، وقد شملهما ما جد من التطور العمراني والاجتماعي، وتذوقي لبيت لويحان المشار إليه ليس لأنه من قصيدة غزلية، ولكن شعوري بالحنين إلى (سوق الجودرية) وسنين الزمن الجميل التي عشتها بين جنباته، وأسلوب تعامل الناس الطيبين من جيل ما بين عام 1360هـ و1370هـ، ففي تلك المرحلة انتقلت مع أسرتي من مسقط رأسي وموطن الأب والجد مدينة (عنيزة) بالقصيم إلى مكة المكرمة، حيث كتب الله لنا الإقامة الدائمة فيها ومنها انتقلنا إلى جدة، حيث استقر بنا المقام بحكم ارتباطي بالعمل الوظيفي، والحياة في جدة مناسبة لجميع المستويات. وذات مرة سألني أحدهم: أنت من أي منطقة في المملكة؟ وأجبته بكل اعتزاز أنتمي للوطن ككل وأعني المملكة) وفي الأصل كانت ولادتي وصباي في مدينة الأب والجد مدينة (عنيزة) الفيحاء بلد المكارم والكرام. ونجد عموماً لها تاريخ مجيد وماضٍ عريق، وأسهم رجالها بدورهم في تنفيذ خطط المملكة اجتماعياً وثقافياً وعمرانياً.. و(نجد) تغنى بها الشعراء قديماً وحديثاً وأذكر قول الشاعر:
ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد
لقد زادني مسراك وجدا على وجد
وحين حاول صدام حسين عبثاً النيل من كيان المملكة وغمز أساس وحدتها الوطنية رد عليه الشاعر الرائع الراحل الدكتور غازي القصيبي بكل شموخ وإباء بقوله الحازم الجازم:
أجل نحن الحجاز ونحن نجد
هنا مجد لنا وهناك مجد
وكما أسلفت كانت ولادتي وصباي في (عنيزة) وكانت بقية مراحل حياتي وتكويني الثقافي ومراحل حياتي الاجتماعية بين مكة وجدة، وهذه الذكريات المحببة التي كتبتها في هذه السطور من قبيل (الشيء بالشيء يذكر) ولعل فيها ما يفيد.
ومبعث الحنين إلى سوق الجودرية أنه حين انتقالي إلى مكة أول ما وطأت قدماي من أرض مكة المكرمة كان سوق الجودرية وقد أعجبني أسلوب التعامل المتحضر تجارياً وأخلاقياً في هذا السوق من أسواق مكة العريقة. وفي ذلك العهد وإن كان المسعى في الأصل للتعبد وإتمام مناسك الحج والعمرة، فقد كان يعج بالحركة التجارية والمصرفية، وكان وجود المباني السكنية والمحلات التجارية على جانبي مسار المسعى ومحيط الحرم بسبب الزحام والمشقة على الحجاج والمعتمرين. ومن المظاهر العجيبة أن السيارات كبيرها وصغيرها كانت تعبر المسعى ذهابا وإيابا ما بين سوق القشاشية والسوق الصغير! ولكن الملك عبدالعزيز ومن تعاقبوا بعده على الحكم من أبنائه صححوا الأوضاع ونهضوا بمشاريع التوسعة وإزالة المباني المحيطة بالحرم والمسعى، وتمت التعويضات المستحقة لملاك ما أزيل من المباني السكنية والتجارية. وكلنا يبارك ويعتز بما أنجز من تطوير وتعمير في محيط المسجد الحرام والمسعى في هذا العهد الميمون.
لقد ألفت سوق الجودرية وهو امتداد لموقع الحرم، كما أحببت مكة المكرمة وجميع أحيائها وأسواقها بطابعها التراثي البديع، وما كانت تزدهي به في أيام الزمن الجميل. وعاش الوطن الشامخ بقيادته الحكيمة المخلصة.