في المجتمعات التقليدية توجد مفارقات لافتة للنظر في الحياة العامة، من أبرز مظاهرها تلك العلاقة النمطية بين الذين يعملون والذين لا يعملون، ومنها على سبيل المثال أن بعض الفئات غير العاملة تكسب أكثر من تلك التي تعمل بمثابرة، وهو ما يختلف عن المجتمعات الحديثة، والتي يكون فيها النجاح لأصحاب الإنجازات والمهارات العملية، بينما تنحصر المهارة في تقاليد المجتمع القديم في القدرة على التميز بدون أن يبذل أحدهم مجهوداً يُذكر، أي أن يأتيه رزقه بدون عناء، ويترك خيار العمل للذين لم ينجحوا في الوصول إلى مرتبة العاطل الثري، عندها تتحول العلاقة بينهما إلى علاقة خادم ومخدوم، ويصبح التذمر سلطة للفئة التي تكسب بدون عمل على رقاب الذين يعملون من أجل توفير لقمة العيش.
لذلك من المألوف في المجتمعات التقليدية أن يكون الإنسان العامل والأكثر إنتاجاً في عمله مصدراً للشكاوي من المستفيدين من مجهوده، بينما تنعم الفئة الأخرى في بيئة خالية من الشكاوي، ولهذا السبب أصبح الوصول إلى حالة العاطل الثري الذي يأتيه رزقه بلا حساب طموحاً لكثير من الناس، وربما يعد ذلك أكبر تهديد لاختفاء الطبقة الوسطى العاملة، ولو راقبنا سماكتها لربما أدركنا أنها قاربت على التلاشي، وهو ما يستدعي إعادة النظر في شروط الكسب في المجتمع، وأن يتحول المجتمع بمختلف طبقاته إلى منتج للعمل، وليس مستهلكاً لشقاء الآخرين.
لكن السؤال الأهم عند الكثير هو عن كيف تصبح من أولئك الذين لا يعملون، ولكن يأتيهم رزقهم بدون جهد يُذكر، وبالتالي يهربون من مواضع التهديد الدائم للشكاوي، وللإجابة عن هذا السؤال سنحتاج إلى شيء من الشفافية، ولكن سأحاول أن أستعرض بعض هذه الأوجه قدر الإمكان، لكن بالتأكيد سأتوقف عند حد معين، ومن هؤلاء على سبيل المثال أن تكون وجه خير في المجتمع، وداعية يبشر بالهداية للآخرين، ومن خلال هذه المسيرة ستنال ثقة الناس الطيبين، وستكون طريقهم الأمثل للشعور بالرضى، ونتيجة لذلك سيغدق الناس على وجه الخير العطايا، وذلك إرضاء لضمائرهم، وبحثاً عن مخرج لتطهير أموالهم، ومع تزايد الشهرة والثقة يصل الداعية إلى تلك المنزلة التي لا يحتاج فيها إلى أن يعمل، وربما يصبح مع مزيد من الظهور الإعلامي نجماً تلفزيونياً في الإعلام.
توجد فئات أخرى ليس لها تأثير مباشر على المجتمع، لكنها تتميز بحضورها الساطع في المجتمع، وإذا حصل ونجح أحدهم في الوصول إليها سيصبح في لمحة بصر من الفئة الفائزة من شقاء العمل وتهديد الشكاوي، وعادة لا يوجد شروط لذلك، ولكن تهيئها الظروف والمنافع المتبادلة، لكن المخرجات بالتأكيد قد تختلف حسب قدرات الشخص، فقد يبرز تاجر عقار شهير يملك الأراضي ويتداول الأسهم، وقد يتحول حسب خلفيته إلى مثقف إعلامي مشهور، يتنقل من قناة إلى أخرى، وتأتيه الفرص بدون جهد فكري يُذكر، وبالتالي يعيش في منأى عن خطر التذمر والمحاسبة.
ما يُميز النموذجين أعلاه أنهما يحاولان جاهدين ألا يصطدما بالفئات العاملة، بل يحاولان قدر الإمكان أن يكسبا تلك الفئة، وذلك من خلال الحديث عن مطالبهما ومصالحهما، لكن يوجد فئات أخرى تتميز بسلوك متسلط على الناس، وهم فئات مرتبطة بالجاه وأعمال الخير، لكنها تفتقد للمهارات الاجتماعية اللازمة، وتعوض ذلك باستغلال علاقاتها السلطوية للتعامل مع المواطنين بفظاظة وقساوة، برغم من أن مرجعيتهم لا تعتمد تلك الممارسات بل ترفضها جملة وتفصيلاً، ويأتي على رأس هذه القائمة نموذج رجل الهيئة «الأقشر»، والذي لا يلتزم بوظائف محددة، لكنه أحياناً يطارد الناس في حياتهم الخاصة، ويحاول بكل جهد أن يوثق في دائرته قضايا ضد المواطنين، معتقداً بذلك أنه يؤدي مهمته في إحكام الرقابة على المجتمع، بينما هو يمارس تسلطه على الناس.
يظهر النموذج الآخر عند بعض الأميين أو أنصاف المتعلمين، الذين كانوا محظوظين في العمل، وهؤلاء يعتقدون أنهم متفوقون منزلة عن الفئات العاملة، وبالتالي لا يترددون في إشهار علاقاتهم المميزة مع صاحب الجاه في وجه أولئك الذين يعملون ليل نهار في خدمة المجتمع، معاملاً إياهم على أنهم خدم وعمال، ويستحقون الشكوى والتحريض إذا رأى في عملهم تقصيراً في تقديم الخدمة على أكمل وجه له أو لعائلته، بينما من المؤكد أن صاحب الشأن قد لا يجيز تلك السلوكيات العنيفة، لذلك على الفئات العاملة أن تكون على قدركبير من الحذر من شكوى محتملة جداً، إذا تقدم إليهم أحدهم، ثم عّرف نفسه على أنه من تلك الفئة.