تبدو الحملة الكلامية الشرسة.. المتصاعدة، والمقذعة.. التي يشنها أعضاء حكومة (الليكود) الإسرائيلية برئاسة (بنيامين نتنياهو).. على وزير الخارجية الأمريكي (جون كيري)، كما لو أنها (مفبركة) مصطنعة .. بسبب غلظتها، وتجاوزها لـ (المقبول) والمعقول.. تجاه الدولة الحاضنة والراعية والحامية
لـ (إسرائيل).. أو الأم الرؤوم لها على وجه الدقة، وأعني بها: الولايات المتحدة الأمريكية.. أو أنه تم الاتفاق على هذه (الحملة) في الخفاء بين (كيري) و(نتنياهو).. بهدف الإيحاء لـ (المفاوض الفلسطيني)، بأن (كيري) يقف إلى جانبه وجانب حقه في إنهاء الاحتلال وقيام دولته المستقلة ذات السيادة وعاصمتها (القدس الشرقية).. وإلا لما كانت هذه الحملة الإسرائيلية عليه، وهو ما سيساعد (كيري) على النجاح في تمرير (إطار السلام) الذي يسعى لإنجازه.. فلسطينياً، في ظل الاعتراضات الفلسطينية التي أخذت تتطاير في الصحافة الإليكترونية وبعض الفضائيات.. قبل أن يتم الإعلان عنه أو تقديمه في صورته النهائية من قبل (كيري) لـ (الطرف الفلسطيني).. أما (الإسرائيلي) فهو يعلم حتماً بكل صغيرة وكبيرة فيه منذ أن بدأ (كيري) في السعي لإنجازه في إطار (حل الدولتين)، بداية من شهر أغسطس الماضي.. ولمدة تسعة أشهر تنتهي مع نهاية شهر إبريل القادم.. حتى يُغرى - بقصر مدة التفاوض - الفلسطينيين بقبول الدخول فيها رغم الاستمرار في بناء المستوطنات على أراضي السلطة الفلسطينية وفي القدس الشرقية وما حولها.. والذي كان إيقافها شرطاً من شروط منظمة التحرير الفلسطينية للعودة إلى (المفاوضات)، وهو ما ألزم (كيري) بالتردد على (القدس الغربية) و(رام الله) لعشر مرات.. في رحلات مكوكية خلال الأشهر الستة الماضية بهدف كسب الوقت وعدم إضاعته، وهو ما أرهقه بالتأكيد.. إلا أن ذلك لم يكن ليعني شيئاً عند اليمين الإسرائيلي المتطرف، أو يشفع له حتى عند وزراء الليكود الذين تم الاتفاق معهم فرادى أو مجتمعين على استدراج الفلسطينيين بهذه (الحملة)..!!
* * *
ولذلك، كان عجيباً أن تبدأ هذه الحملة الإسرائيلية على (جون كيري).. قبل أن تنتهي اجتماعات (لجنة الأمم المتحدة المعنية بممارسة الشعب الفلسطيني لحقوقه) المعتادة سنوياً في السابع عشر من يناير الماضي، وقبل أن يُطلق الرئيس محمود عباس - في أعقابها - تصريحاته المتفائلة فلسطينياً.. عندما قال: (يحدونا الأمل أن يكون عام 2014م هو عام إنهاء الاحتلال الإسرائيلي الذي بدأ في عام 1967م، وتحقيق استقلال دولة فلسطين ذات السيادة الكاملة وعاصمتها القدس الشرقية). وإذا كان (مجلس المستوطنات الصهيونية).. تكفل بـ (الرد) على تفاؤل (أبو مازن) هذا بـ (الهجوم) على (كيري) - رأس البلاء من وجهة نظره - من خلال مظاهرات أعضائه التي جابت شوارع القدس الغربية.. وهي تحمل لافتات (لن نستسلم لجون كيري) و(قادة إسرائيل يرفضون خطة كيري)!! وهم يطالبون (حكومة إسرائيل برئاسة بنيامين نتنياهو بوقف المفاوضات الجارية مع الفلسطينيين).. فقد سبق هؤلاء المتظاهرون الصهاينة، وبزهم جميعاً من يسمى بـ (وزير الجيش الإسرائيلي) الجنرال (موشيه يعالون).. بهجوم أشد ضراوة على (جون كيري) شخصياً وخطته عندما قال ساخراً هازئاً: (إن الأمر الوحيد القادر على حل الوضع.. هو في حال منح جون كيري «جائزة نوبل» ليتركنا بسلام)!! ليضيف قائلاً بـ (إن كيري الذي وصل هنا - يقصد آخر زيارة له - يتصرف انطلاقاً من هوس في غير محله وحماسة تبشيرية)!! و(أنه يتصرف في سعيه للسلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين كـ «المخلص» المنتظر) أو (عيسى بن مريم).. كما لابد وأنه يقصد..! فكان أقصى ما ردت به الخارجية الأمريكية على كل هذا الاستهتار والاستخفاف بشخص وزير خارجية الولايات المتحدة.. على لسان المتحدثة باسمها (جنيفر بساكي) قائلة: (إن تصريحات «يعالون» إن كانت دقيقة.. تعد مهينة وغير لائقة خصوصاً بالنظر إلى كل ما تبذله الولايات المتحدة لدعم احتياجات إسرائيل الأمنية)..!!
* * *
ولم يقف الهجوم الإسرائيلي على (كيري).. عند هذا الحد، ولكنه عاد مجدداً.. بعد ختام اجتماعات (اللجنة الرباعية) يوم الجمعة الماضي بمدينة (ميونيخ) الألمانية.. وعلى لسان ثلاثة من وزراء حكومة الليكود، كان (أولهم) من يُسمى بـ (وزير الجبهة الداخلية) جلعاد اردان.. الذي علق على خطوات (جون كيري) في سبيل إنجاز (إطار السلام) هذا.. متمعلماً عليه: (من المؤسف أن الإدارة الأمريكية لا تفهم الحقيقة في الشرق الأوسط وتمارس ضغوطات على الجانب الخطأ في الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني)!! ثم أدلى بنصيحته (الذهبية)!! عندما قال (أود أن يشرح جون كيري لمحمود عباس ما الذي سيحدث في حال رفضه صنع السلام).. فمن أين أتى بأن (أبا مازن) رفض أو يرفض صنع السلام..؟ ثم ما الذي سيحدث أيها (العالم) الجهبز أكثر مما حدث للفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة طوال سنوات الاحتلال من (حصار وجدار، واعتقالات واقتحامات ومداهمات، وهدم للدور والمنازل، واقتلاع للأشجار واستيلاء على مزيد من الأراضي بقوة السلاح أمام عُزَّل لا يملكون غير شجاعتهم والحجارة)..!؟ ولكنها (غطرسة القوة) التي ربتها وصنعتها فيهم الولايات المتحدة الأمريكية منذ أيام سيئ الذكر (هاري ترومان) في أربعينيات القرن الماضي بـ (اعترافه) المتعجل والمكشوف بـ (إسرائيل).. قبل أن تعلن (الجمعية العامة للأمم المتحدة) عن قيامها رسمياً، ودعمه السياسي والعسكري والاقتصادي.. غير المحدود، والذي تسابق عليه الرؤساء الخلف من بعده - باستثناء أيزنهاور وكينيدي وكلينتون - وإلى يومنا هذا، ليأتي (جلعاد) هذا.. ويعلم وزير خارجيتها المرشح الديمقراطي الأسبق لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية: (ما الصح.. وما الخطأ)!! و(ماذا عليه أن يفعل.. وماذا عليه ألا يفعل)!! ليأخذ مطرقة الهجوم على جون كيري (ثانيهم): وزير الإسكان (أوري أريئيل) عندما قال عنه بـ (أنه ليس وسيطاً نزيهاً بحديثه عن تهديد المقاطعة)، وهو ما لوح به (جون كيري) بعد أن استدعت خمس من أهم دول أوروبا الغربية (إنجلترا وفرنسا وإيطاليا وأسبانيا واللوكسمبورج عاصمة الاتحاد الأوروبي).. السفراء الإسرائيليين المعتمدين لديها لتحذير حكومتهم من العودة لبناء (المستوطنات) في أراضي (السلطة الفلسطينية) لأن ذلك سيؤدي إلى القطيعة معها، وهو ما ذكره (كيري) من باب (الخوف) على إسرائيل واستقرار مكانتها لدى هذه الدول ذات الأهمية الكبرى بالنسبة لها في أوروبا.ومن قد يتأسى بها من دول العدل والإنصاف في بقية أرجاء المعمورة، وليس من باب تهديدها أو (الشماتة) بها وبهذه (القطيعة) إن حدثت..؟!
ليأتي (ثالثهم)، وهو من يسمى بـ (وزير الشؤون الإستراتيجية) بوفال شتاينتز، الذي قال تعقيباً على حديث (كيري) عن المقاطعة الدولية المحتملة لـ (إسرائيل) بـ (أن تصريحات كيري مهينة وغير عادلة ولا يمكن احتمالها)!! فإذا كان كل هذا يكال أو يقال بـ (الاتفاق) مع (نتنياهو) أو عدمه.. لوزير الخارجية الأمريكي (الراعي) لـ (إطار السلام) هذا، وهو الحليف والصديق والشريك الإستراتيجي.. فماذا كان سيقول وزراء (الليكود) هؤلاء لو أن (الراعي) هذا كان روسياً أو صينياً..؟
ولكن هذه هي (إسرائيل)!!
ليعلن (نتنياهو) قبل أن تتسع رقعة الجدل حول (المقاطعة) الأوروبية بعشرة أيام.. وقبل إعلان (كيري) عن (إطاره) للسلام.. بما يشبه (المبادرة) الإيجابية - كما تصور! - أنه (يوافق على قيام دولة فلسطينية منزوعة السلاح، تعترف بيهودية إسرائيل).. وليس في هذا الاعتراف أي (تطهير عرقي).. من وجهة نظره!! بينما الاستيطان الإسرائيلي الذي يبلغ (440) مستوطنة في أراضي الضفة الغربية، و(44) مستعمرة، و(48) قاعدة عسكرية، و(96) بؤرة داخل المستوطنات.. فقد رمى بـ (مسؤولية) اضطراره لضمها إلى إسرائيل على الفلسطينيين(!!) لأنهم (عبروا أكثر من مرة أنهم يريدون دولة نظيفة من أي يهودي، وهذا في نظري تطهير عرقي)!! وهو ما يعني في حالة ضم هذا الاستيطان الهائل لـ (إسرائيل) اليهودية.. أن المتبقي من أراضي الوطن الفلسطيني الأم لن يزيد عن 17%.. لتقوم عليه الدولة الفلسطينية المرتقبة، التي ضحى من أجل قيامها مئات الآلاف من الفلسطينيين والعرب من عام 1948 إلى أيامنا هذه..!!
***
على أي حال.. فإن (التسريبات) التي تناقلها المفاوضون من الجانبين، ووصلت إلى الإعلام عن (إطار السلام) هذا، الذي يسعى (كيري) لإنجازه.. كانت تتحدث عن شيء آخر (صادم) دون شك لـ (نتنياهو)، وأحلامه في تحويل (المستوطنات) بكمها الخرافي الهائل.. إلى أراض تتبع دولة (إسرائيل)، التي يشترط الاعتراف بـ (يهوديتها)، ففي حال رفض المستوطنين الإسرائيليين (الجلاء) عن تلك المستوطنات التي أقاموها على أراضي السلطة الفلسطينية اغتصاباً.. فإن (كيري) - وكما جاء في تلك التسريبات - لا يرى مانعاً من بقائها وبقائهم تحت إدارة الدولة الفلسطينية المرتقبة.. مع تبادل ما نسبته 6% من أراضي الطرفين، تلغي التداخل الحدودي بينهما، وتمكن من حمايتهما وطنياً أو عبر قوات إسرائيلية فلسطينية أردنية أمريكية مشتركة.. أو قوات أطلسية، واعتماد (القدس).. عاصمة للدولتين: (الغربية) لإسرائيل و(الشرقية) لفلسطين، فإذا صدقت هذه (التسريبات).. فإن العالم من أقصاه إلى أقصاه سيكون على موعد في نهاية شهر (إبريل) القادم مع إنجاز تاريخي لا يقل أهمية عن (اتفاق أوسلو) الأعظم.. الذي أنجزته (أوسلو) وخطفته ودمرته (واشنطن) عام 1993م.. بتوقيع وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، الذي استطاع أن يضع يده على مفتاحي (الحل النهائي) الأساسيين والرئيسيين.. وهما: (القدس) و(المستوطنات)، والذي سيستحق أن تتقدم معه.. كل المنظمات الدولية المعنية بقضايا الحرب والسلام بطلب إلى أمانة جائزة نوبل للسلام في العاصمة السويدية (استكهولم).. لمنحها منفردة لـ (جون كيري) عن عام 2014م، إذ يكفي تاريخ الجائزة.. سقطتها بمنحها مناصفة - عام 1979م - لـ (السادات) ومعلم الإرهاب وأستاذه (مناحيم بيجن)!! بينما حُرم منها - بوفاته المفاجئة - علم السياسة النرويجية ونبيلها (جوهان هولست).. صاحب إنجاز (أوسلو) عام 1993، لتمنح من بعد عام 1994م مناصفة لكل من (إسحاق رابين) و(ياسر عرفات) لإنفاذهما لـ (اتفاق أوسلو).. وتطبيقاته على أرض الواقع.
وإذا كنت أشارك من يقول إن (جون كيري) الأمريكي.. ليس هو (جوهان هولست) النرويجي بتجرده وإخلاصه ودأبه في إنجاز (اتفاق أوسلو)، إلا أنه في المقابل.. ليس هو (كونداليزا رايس) بوش الابن بـ (هوسه)، ولاهو بـ (هيلاري كيلنتون) أوباما الدورة الأولى بـ (أحلامها).. ولكنه - إذا صحت التسريبات التي نقلت عن إطاره للسلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين - سيكون هو (المنجز) لاتفاق مستحيل بينهما برعاية أمريكية..!! وسيكون في كل الأحوال (المنقذ) لـ (أوباما) وسمعته، وملاحقة التاريخ له كـ (أكذب) رئيس عرفه التاريخ الأمريكي.. بعد خطاب جامعة القاهرة - 6 يونيه 2009م - وبكائه على حال الفلسطينيين ووعوده السرابية لهم.. إلى أن جاء بـ (كيري) لإنفاذها وإنقاذه!!
فـ (التاريخ) لا ينسى.. ولا يرحم!!