عندما يكون المرء يافعاً وقادراً على تلقي بعض القواعد الثقافية التي تمليها عليه بيئته المحيطة، متخطياً بذلك الفطرة الإنسانية، فإن هذه الثقافة المستقاة لا بد لها من توسع إلى أطراف بعيدة، يميناً وشمالاً وشرقاً وغرباً، وما بينهما من اتجاهات، فيشب الفتى على ما كان عوده أبوه في أساسه، لكنه لا يلبث أن ينطلق في هذا المحيط الرحب، فربما يأنس بصديق أو قريب يجره إلى معتقد ألفه واقتنع به، وزين لصاحبه في امتطاء صهوته، فيسارع الفتى اليافع في التوجه إلى ذلك التيار الجارف من منطلق إيماني، لا سيما إذا كان ذلك مرتبطاً بخوف من عقاب، أو أملاً في ثواب، ولا يبرح أن يحلق في ذلك السماء الثقافي المتمدد كما يمتد الكون، وتهفو نفسه ويخفق قلبه متوثباً لنيل الثواب فيما يراه، وهو في هذا المعترك الفكري يتكئ على عاطفته، جاعلاً عقله في راحة تامة، لأن العقل كثيراً ما يمنع العاطفة من التمتع بالملذات، ومنها تلك الأماني التي تدغدغ مشاعره وتسرح به بعيداً في ميدان الخيال غير النهائي.
وهناك من الناس من ينتقل بين أفكار مختلفة لعدم رسو إيمانه بما يتطعمه من فكر، فيعود أدراجه إلى النقيض، وقد يكون متوازناً أو مبالغاً في ذهابه وإيابه، طبقاً لما حباه الله من قوة الفرامل لمنع الانقياد العنيف خلف اللذة الفكرية المؤدية إلى المجهول.
لقد حدث لكثير من المفكرين تحول جذري في توجهاتهم، ومعتقدهم، فساروا في طريق ثم عادوا أدراجهم إلى ما هو حق كما يرونه، ويراه الكثير غيرهم، ومن أولئك الأستاذ مصطفى محمود، والأستاذ الجارودي، في زماننا القريب، أو حتى سجاح عند خروجها ثم عودتها إلى الحق في زمن سابق، أو قس بن ساعدة الأيادي الذي سبقها قبل أن يظهر نور الحق.
هذا التحول الفكري الإيجابي ربما كان مرده إلى التفكير الهادئ، والتفكر العميق، وربط المعطيات الروحية والعلمية والثقافية لتنير الطريق للباحث عن الحق أينما وجد، لكنه الصبر والتصبر يحتاج إلى عصف فكري، وقرع للنفس، ونهي لها عن الهوى، وهذا يتطلب جهداً جباراً وطاقة كبيرة.
وبعض الناس يكون ميالاً إلى عاطفته، مستسلماً لها، لا يرغب أن يكون هناك صراع بين العاطفة والعقل حتى لا يصرف الكثير من طاقته في ذلك الصراع المزعج له، وتدفع به العاطفة إلى أطراف ذلك المحيط الفكري الفسيح، فيخرج من المعقول إلى غير المعقول، لأنه قرر دفن عقله، والاستسلام لعاطفته التي ولدت لديه قناعة بصحة سلوكه، ولا ريب أن ذلك الاستسلام للعاطفة لا يمكنه أن يكون نهائياً، لأن العقل لا بد له من البزوغ بين تارة وأخرى، لكن هناك من يكون في ساحته الفكرية من يثنيه عن حتى مجرد التفكير العقلي، فيبقى أسير تلك العاطفة لا سيما أنها قد أسدلت غطاءها على عقله، فكلما أراد أن يثب إلى رشده، انبرى له أصدقاء أو أصحاب أهواء ليثنوه عن مراده، فينكفئ مرات تلو المرات، وهكذا ينتهي به الأمر إلى أن يكون متطرفاً في فكره، مؤمناً بما ليس في عقله، أسيراً لرؤية غيره، التي ربما لم يكن ذلك الغير مؤمناً بها في الأصل، وإنما أخذها مطية لبلوغ شأو، أو نيل غنيمة، يكون إحدى أدواتها ذلك المسكين الذي غلبت عاطفته عقله فأضحى أسيرها.
في واقعنا اليوم كثرت فيه أدوات الإعلام والتواصل الاجتماعي، كان لزاماً على الآباء تحصين الأبناء بالثقة وتحكيم العقل، دون الدفع بالنشء إلى التلقي دون تفكير، والتوجيه دون تقدير، والاستسلام لطلبات الأبناء، وجعلهم أسيري عواطفهم، فينشأون وقد غلبت العاطفة العقل، فأضحى الطريق معبداً لاختيار المسلك الخاطئ، حمانا الله وإياكم من الشر والأشرار، وألهمنا طريق الحق المبين.